د . الصادق محمد سلمان

الاهتمام بتجميع مفردات اللهجات العامية في السودان في قواميس بدأ مع بدايات القرن التاسع عشر، وكانت الدوافع لذلك مختلفة، كانت البدايات لأغراض وظيفية بحتة، فقد كانت هناك حاجة لأن يعرف الإداريون البريطانيون اللغة التي يتحدث بها أهل السودان وهي العامية، وقام البكباشي أتش . ف . س أمري مساعد مدير المخابرات في الجيش المصري بإصدار قاموسه ” دليل الحيران إلى لغة أهل السودان، وكان ذلك في العام 1905، ( 1 ) ثم فيما بعد أصدر سيجمار هيليلسون قاموسه الذي عُرف بكراسة هيليلسون  “نصوص في عربية السودان” (2 ) ما ورد في القاموس أو الكراسة لم يكن قاموساً بالمعنى المألوف إذ لم يلتزم بالطريقة المعروفة في إعداد القواميس، حيث تكتب المفردات، ومن ثم يتم الشرح مقابلها والحديث حولها مثل تأصيل المفردة وردها إلى أصلها في الفصحى، وغيرها من المعلومات التي يهتم بها عادة مؤلفو القواميس، إنما اشتمل على نصوص لحكايات شعبية وأمثال وأشعار وألغاز ومحادثات بين أشخاص في موضوع من الموضوعات وأهازيج للأطفال ونصوص لخطابات للخليفة عبدالله لبعض الشخصيات السودانية، هذه النماذح مثلت معظم  اللهجات التي يتحدث بها الناس في السودان، في الغرب والشرق والوسط والشمال، وقد أشار هيليلسون إلى أن اللهجات العربية في السودان تنقسم إلى أربع لهجات رئيسة هي :

1 / لهجة شمال السودان – المناطق التي تتكلم العربية من بربر إلى دنقلا.

2 / لهجة وسط السودان – وفيها أم درمان والجزيرة والبلاد الواقعة شرقي النيل الأزرق.

3 / لهجة غرب السودان – وتضم النيل الأبيض وكردفان ودارفور ما عدا لهجة البقارة.

4 / لهجة البقارة . (3)

 ورغم غياب ذلك التقليد أو المنهج المتبع في إعداد القواميس، إلا أن الطريقة التي أتبعها المؤلف كانت لها فوائد جمة ، فالنصوص التي أوردها تكاد تكون غطت معظم مناطق السودان، كما أنها حافظت على السياق الطبيعي للمفردة في اللهجة التي يتحدث بها الناس في كل منطقة، إضافة إلي أنها وثقت نماذج مختلفة من  عناصر التراث الشعبي.

ويعتبر كتاب ” العربية في السودان ”    (4) لمؤلفه الشيخ عبد الله عبد الرحمن الضرير من الكتب التي تعرضت للهجة العامية السودانية، وهو من أوائل المؤلفات في هذا المجال ويعتبر من المصادر المهمة للباحثين، وكان لصاحبه مع آخرين الفضل في جذب الانتباه لهذا النوع من التأليف، وقد صدر هذا الكتاب في العام 1922 واحتوى على جزءين خصص الجزء الأكبر من القسم الثاني من الكتاب لمفردات من العامية السودانية مرتبة ألفبائياً (حسب حروف الكتابة العربية) وشرح معنى الكلمة وردها إلى أصلها في الفصحى، وكان هدفه من ذلك تأكيد عروبة أهل السودان من خلال إثبات أن عامية السودان في معظمها فصيحة.

أما كتاب نعوم شقير (جغرافية وتاريخ السودان) الذي صدرت أول طبعة له  في عام 1903م، فقد احتوى الباب الثالث من الفصل الأول على عدد لا بأس به من المفردات في العامية السودانية، وعلى نصوص من خطابات الخليفة عبدالله للأمير عبد الرؤف أحد أمراء الدينكا، والمك الجبوري أحد مكوك النوبا، (5)، لأن أسلوبها تغلب عليه اللغة العامية، كما أورد في الفصل الذي تحدث فيه عن لغات أهل السودان مفردات من العامية إضافة إلى ما أورده في الفصل الأول.

ويمكن القول بصفة عامة أن المجهودات السابقة انحصرت في أهداف ليست ذات صلة بالبحث، أو على الأقل لم يكن الهدف منها جمع وتسجيل المفردات العامية لغرض الحفظ والتوثيق، ولكن مع ذلك قامت بهذه المهمة، فقد حفظت لنا اللهجات السودانية في تلك الفترة التاريخية.

مر وقت طويل منذ تلك الفترة ليعود الاهتمام باللهجات العامية بصورة غلب عليها الهدف البحثي والتوثيقي. تمثل ذلك في البحوث والدراسات التي تمت في هذه الفترة من قبل الباحثين السودانيين والأجانب في أقسام اللغويات التي أُنشئت في الجامعات  السودانية وأقسام اللغة العربية بهذه الجامعات التي بدأ فيها هذا الإهتمام. فقد صدر أول قاموس شامل للعامية السودانية أعده المرحوم البروفيسور عون الشريف قاسم الأستاذ بكلية الآداب بجامعة الخرطوم عن دار جامعة الخرطوم للنشر عام 1972م، (6) والذي أصبح المرجع الأول للباحثين والدارسين في هذا المجال وغيرهم من المهتمين بموضوع اللهجات العامية، وقد أعيدت طباعته عدد من المرات ووصلت إلى الطبعة الثالتة التي صدرت في العام 2002م، من الدار السودانية للكتب. وقد اهتم المرحوم عون الشريف باللغة العامية التي يتحدث بها معظم السودانيين والتي يطلق عليها عامية وسط  السودان ولكنه كثيراً ما يورد مفردات من العاميات العربية في بعض المناطق ويشير إلى منطقتها أو إلى اللهجة، فيكتب بين قوسين مثلاً (س غرب) أو   (بقارة غرب) أو (بطانة) أو (شرق)، وإذا كانت الكلمة هي نفسها في الفصحى قال (ف) أو (س ف) أي سودانية وفصيحة، أ و (ن) إذا كانت نوبية أو تركية، فارسية، مصرية إلخ…وضع الرمز بين قوسين وهكذا.

 في قاموس اللهجة العامية أورد المؤلف أسماء الأعلام والمدن والبلدات. أسماء الأماكن يمكن ان تكون وراءها قصة، أو تفسيرات مثل مدينة أم درمان وكوستي والأبيض وغيرها، أما أسماء الأعلام المعروفة وهي مشتركة بين كثير من الدول العربية والإسلامية، وهي لا تحتاج لشرح، بل حتى الإشارة إليها، غير أن هناك أسماء سودانية مثل شلقامي، وعاشميك، وكرشوم وأبريدة   (أبوريدة) وغيرها من الأسماء التي لها دلالات محلية فهذه كانت الإشارة إليها يدخل في حقل العامية: بذل المرحوم عون الشريف مجهوداً جباراً في هذا القاموس، فكان يؤكد معنى المفردة بأبيات من الشعر الشعبي من اللهجة التي تنتمي لها المفردة وأحياناً بالأمثال وهكذا جمع في قاموسه نماذج من التراث الشعبي من بعض المناطق.

القاموس الثاني كان خاصاً باللهجة العامية العربية في منطقة محددة هي إقليم دارفور، أعده الدكتور إبراهيم آدم إسحق الأستاذ بجامعة أم درمان الإسلامية، وصدر في جزءين، الأول عام 2002 والثاني عام 2011، الأول عبارة عن دراسة وتحليل لبعض الظواهر اللغوية التي تختص بها لهجة  دارفور القروية كما سماها والمتكلم بها الآن كما تناول أنماط الأبنية والتراكيب في هذه اللهجة، أم الجزء الثاني فهو معجم مرتب بترتيب حروف الهجاء العربية، ويعتبر هذا القاموس أول قاموس يتناول لهجة من اللهجات العامية العربية في منطقة محددة من السودان، هذه العامية ليست خاصة بمجموعة معينة إنما يتحدثها سكان إقليم بحجم دارفور يضم العديد من الإثنيات، وقال المؤلف في مقدمته إن هذا يشتمل على مفردات تختص بها عامية دارفور القروية دون سائر العاميات في السودان أو هي شائعة فيها أكثر من  غيرها .    (7).

 أما كتاب ” مفردات من لهجة البقارة ” (8) وهو من إعداد كاتب هذه السطور، فهو قاموس يتناول لهجة تتحدث بها مجموعات البقارة التي تحتل حزاماً يمتد  من النيل الأبيض حتى بحيرة تشاد، واختلطت هذه المجموعات مع المجموعات التي تسكن هذه المناطق وحدثت عملية تأثير وتأثر كبير بين هذه المجموعات ما وسّع عدد المتحدثين بهذه اللهجة. ويقول معد القاموس أنه برغم غلبة المفردات الفصيحة في هذه اللهجة إلا أنها قد تكون غير مألوفة لكثير من الناس في بعض مناطق السودان. ولهجة البقارة كواحدة من اللهجات العربية الواسعة الانتشار في غرب السودان تشترك بالطبع مع العاميات العربية السودانية في الحقل العام للمفردات والألفاظ وفي بعض الخصائص اللغوية، لكن لها حقلها الخاص بها الذي يميزها عن اللهحات العربية الأخرى سواءً في النطق أو التراكيب والظواهر النحوية  الأخرى. ويقول المؤلف إنه تحاشى المفردات المشتركة الشائعة في العامية السودانية، ولم يوردها، لأنها موجودة في القواميس التي تناولت العامية السودانية عامة إلا إذا كانت تعني مدلولاً ومعن مختلفاً في لهجة البقارة .

بالنسبة للغات السودانية “المحلية” وهي ليست لهجات كما يطلق عليها كثير من الناس هذا الوصف، بل هي لغات لها مقومات اللغات ما دامت تشكل وسيلة التواصل بين مجموعة من الناس في مكان واحد أو أمكنة وأزمنة تاريخية مختلفة، أما اللهجات في كما يقول علماء اللسانيات فهي “نمط من أنماط اللغة أو هيئة من هيئات اللغة تنفرد بها مجموعة محددة داخل المجتمع اللغوي العام للغة المعنية ” ( 9 ) *.  وقد اهتم عدد من الباحثين من المتحدثين بهذه اللغات السودانية غير العربية بإعداد قواميس لها عدا الدراسات اللغوية التي تمت لها، بعض هذه القواميس نشر وبعضها لم ينشر، من هذه اللغات، النوبية، والبجاوية، ولغة الفور، والمساليت، ولغة البرتا في ولاية النيل الأزرق .

قواميس اللهجات العامية العربية في السودان كعمل علمي توثيقي، تبدو أهميتها في أنها تحفظ هذه اللهجات، والوقوف على التطورات التي حدثت لها خلال الفترات التاريخية المختلفة، ولا تقف أهميتها عند عملية التوثيق لهذه اللهجات إذ أنها توثق لكامل النسق الثقافي إذ تتضمن شرح المفاهيم والعادات والتقاليد والأمثال فهي ليست مجرد شرح لمعاني ومدلول الألفاظ والمفردات.

مراجع :

1 / انظر كراسة هيليلسون : نصوص بعامية السودان العربية، إعداد عثمان النصيري، مركز عبد الكريم ميرغني، 2011 . 2 / نفسه . 3 / نفسه . 4 / ع. عبد الرحمن الضرير، العربية في السودان.

5 /  نعوم شقير، جغرافية وتاريخ السودان . 6 / عون الشريف قاسم قاموس العامية في السودان.   7/    إبراهيم آدم إسحق، قاموس عامية     دارفور العربية. 8 / الصادق محمد سليمان، مفردات من لهجة البقارة

: الأمين أبو منقة وكمال محمد جاه الله، لغات السودان: مقدمة تعريفية، مجلس تطوير وترقية اللغات القومية ، 2011 .