صدر الجزء الأول من كتاب ” الأصول العربية للهجة دار فور العامية (القروية) لمؤلفه الأستاذ الدكتور/ إبراهيم آدم إسحق ، هذا السفر المتميّز في بابه ، ألا وهو دراسة اللهجات ، في طبعته الأولى في شهر أغسطس من العام 2002 ميلادية ، أي قبل حوالي الأربعة أعوام فقط من الآن. فهو إذاً كتاب حديث نسبيا. ويتألّف هذا الكتاب الذي ليست في النسخة التي بحوزتي منه أية إشارة لدار النشر أو الطبع التي طبع فيها ، من 442 صفحة من القطع المتوسط.
مؤلف الكتاب هو الدكتور/ إبراهيم آدم إسحق ، و تفيدنا نبذة من سيرته الذاتية منشورة على الغلاف الخلفي للكتاب بأنّه من مواليد قرية ( حلّة بابكر ) الكائنة بريفي الفاشر ، وأنّه تخرج في قسم اللغة العربية ، كلية الآداب ، بفرع جامعة القاهرة بالخرطوم في عام 1968 ، و عمل عقب تخرجه مدرسا للغة العربية والتربية الإسلامية بالمدارس الثانوية ، وفي أثناء ذلك حصل على درجة الماجستير في ( الأصوات ) من نفس الجامعة ، ومن ثمّ التحق بجامعة أم درمان الإسلامية في وظيفة ( محاضر في علم اللغة ) في سنة 1980 ، ثم ابتعث إلى جامعة عين شمس بالقاهرة ، حيث حصل على درجة الدكتوراه في فقه اللغة في عام 1988 ، بموجب أطروحة قدمّها يومئذ بعنوان ( التعريب ودوره في بناء المعجم الحديث ).
أما عن سيرته المهنيّة بعد ذلك ، فقد عيّن نائبا لمدير جامعة الفاشر في عام 1991 ، ثم أمينا عاما لمكتبات جامعة أم درمان الإسلامية بدرجة عميد كلية ، وأخيرا تمت إعارته للعمل بالمملكة العربية السعودية حيث ظل يشغل حتى تاريخ صدور هذا الكتاب الذي نحن بصدده ، منصب رئيس قسم اللغة العربية بكلية المعلمين في منطقة جازان.
وأمّا سجل نشاطه الثقافي العام بالسودان ، فيفيدنا بأنه قد قدّم ثلاث عشرة ومائتي (213) من برنامج ( في ساحات اللغة ) ، في الفترة 1995 – 1998 ، بالإذاعة السودانية ، إذاعة البرنامج الثاني ، وقد كان محاوره هو الأستاذ/ الطيب إبراهيم عيسى. كما أنّ له عددا من الأبحاث المنشورة وغير المنشورة في مجال تخصصه.
ولا أراني في حاجة إلى أن أبسط للقارئ الكريم القول عن المنهج الذي اتّبعه الكاتب في تأليف كتابه ، أو طريقة جمع مادته ، وتصنيفها ، وتبويبها ، ومعالجتها الخ. إذ لسنا نحن بصدد مناقشة أطروحة أكاديمية – والمؤلف بعد ، أكاديمي عريق ، وأستاذ جامعي متمرس ، لا يقعقع له بالشنان في مثل هذه البديهيات – بقدر ما أننا بصدد إعطاء عامة القراء فكرة مجملة عن محتوى الكتاب ، ومناقشة بعض ما جاء فيه ، فضلا عن إبداء بعض الآراء والملاحظات ، إغناء للنقاش ، وتعميما للفائدة.
وقناعة كاتب هذه السطور هي أنّه سوف يكون لهذا السفر القيّم – الذي لم يحظ بعد في تقديري بالاحتفاء اللائق به في الصحافة الثقافية في السودان – من الخطر والمكانة عند عامة القراء والباحثين المتخصصين في مجال اللهجات العربية ، وخصوصا التنوع اللهجي العظيم الثراء في السودان ، سواء بين السودانيين أو الأجانب ، شيء قريب مما لكتاب الأستاذ الجليل بروفيسور عون الشريف قاسم الموسوم ب ” قاموس اللهجة العامية في السودان ” ، وهو العمدة في هذا المجال ، سوى أنّ تركيز هذا الأخير يكاد يكون محصوراً في لهجات الوسط المستعرب استعرابا تاما ، ولذلك كثيرا ما تجد الدكتور عون يستشهد بمثل قوله: ” قال الشكري ، قال الحمري ، قال الشايقي ، قال الكباشي الخ “. كذلك أعتقد أن طوائف كثيرة أخرى من الباحثين في مجالات الفلكلور ، والأنثربولوجيا ، والإثنوغرافيا الخ ، سيجدون مادة نفيسة و غزيرة جدا لأبحاثهم في كتاب الدكتور إبراهيم هذا.
يوضح الدكتور إبراهيم إسحق غرضه من تأليف الكتاب ويلخص فحواه في إيجاز بليغ كما يلي:
“لقد حاولت في هذا السفر أن أعرض لبعض الظواهر اللغوية التي كادت تختص بها عامية دار فور القروية ، دون سواها من عاميّات السودان العربية ، المتكلم بها اليوم…. بالدرس والتحليل ، كما حاولت في الوقت نفسه ، أن أبسط فيه أنماطا من الأبنية والتراكيب التي عرفت بها هذه العامية ، التي ما تزال تحتفظ بحظ وافر من هذه الكلم والظواهر القديمة ، التي تعد اليوم من الركام اللغوي الذي هجره الاستعمال ، فظل حبيس المعاجم والمطولات ، حتى صار من غير المألوف استعماله اليوم لدى كثير من المتكلمين بالعربية من عامة أهل السودان… وقصدي من ذلك كله ، هو خدمة هذه العربية التي شرفها الله تعالى بنزول القرآن الكريم بها ، بنهج تأصيلي ، يكشف الغوامض والمعميّات التي طبعت بها هذه العربية ( اللهجة ) التي صارت لسانا لأهل القرى من عامة دار فور منذ ما يقرب من سبعة قرون ، حين عمّ الإسلام ربوعها ، فصبغت حياتها العامة بصبغته. الخ “.
هذا، وليس أدلّ على سداد المنهج الذي اتّبعه الدكتور إبراهيم في تأليف هذا الكتاب ، فضلا عن القيمة العلمية للكتاب نفسها ، مما جاء بقلم الأستاذ الدكتور/ عون الشريف قاسم في المقدمة الضافية التي قدّم بها هذا السفر القيم للقراء ، وذلك حين يقول: ” الناحية الثانية التي تعزى إليها أهمية هذه الدراسة ، الجهد العلمي البالغ الكثافة والدقة الذي أفرغه الدكتور إبراهيم في معالجة موضوعه ، بحيث جاء تحليله اللغوي لكثير من ظواهر لهجة دار فور العربية ، معياراً صالحاً للتطبيق على كثير من اللهجات العربية الأخرى. وقد استقام له هذا المنهج بما اتبعه من متابعة دقيقة للظواهر اللغوية ، في شتى مستوياتها: الصوتية ، والصرفية ، والدلالية ، والتركيبية ، وإخضاعها لقواعد علم الأصوات ، وعلم اللسانيات المختلفة ، التي تمخّض عنها الدرس اللغوي المعاصر ، وبذلك تسنّى له الوصول إلى مرتكزات عامة في دراسة اللهجة العامية في دار فور ، يصلح تطبيقها على غيرها من اللهجات. الخ ” أ.هـ من كلام الدكتور عون.
ومما أغراني أنا خاصة بالنظر في كتاب ” الأصول العربية للهجة دار فور العامية (القروية) ” للدكتور إبراهيم آدم إسحق ، ومحاولة مناقشة ما جاء فيه ، هو كون أنّ دراسة اللغات واللهجات ، وخصوصا اللهجات العربية ، والمقابلة فيما بينها ، هي مما يستهويني جدا ، فأنا من أولئك النفر الذين يأسرهم علم فقه اللغة بصفة عامة ، رغم أن تخصصي الأكاديمي في الدراسة الجامعية اللغات الإنجليزية ثم الفرنسية ، وفي الدراسة ما بعد الجامعية هو ” الدبلوماسية والعلاقات الدولية “. أضف إلى ذلك أنني من كردفان ، ولهجتها العربية العامية ، بل قل لهجاتها العاميات العربيات ، تربطها خصائص مشتركة كثيرة مع لهجات دار فور القروية منها كما قصد إلى ذلك تحديدا الدكتور إبراهيم في كتابه هذا ، والبدوية أيضا.
والسمة العامة التي تربط بين اللهجات العربية في غرب السودان عموما ( كردفان ودار فور ) ، هي – في تقديري الخاص – أنها تنزع جميعها إلى التأثر الواضح بلهجات الأندلس والشمال الإفريقي خاصة ، بينما يبدو في المقابل أنّ عربية وسط وشمال السودان ، أكثر تأثرا بلهجات مصر والحجاز والمشرق العربي عموما.
فمن مظاهر تأثر لهجات غرب السودان بلهجات الشمال الإفريقي مثلا ، إثبات واو الجماعة في الفعل المضارع الدال على جماعة المتكلمين مثل: ” نمشوا في نمشي ، وناكلوا في ناكل ، ونلبسوا في نلبس “. هكذا ينطق المتحدثون بالعربية في كردفان ودار فور ، وكذلك في سائر شمال إفريقيا من لدن ليبيا وحتى المغرب. وهي كذلك لهجة الإسكندرية في مصر المتأثرين بدورهم بشريا وثقافيا بالشمال الإفريقي منذ قديم الزمان. ومما وقفت عليه أيضا من أوجه الشبه ومظاهر التأثر الواضحة بلهجات بلاد المغرب العربي ، هو أن بعض القبائل البدوية في شمال كردفان مثل ” دار حامد ” على سبيل المثال ، يسمون الضفدعة ” الجرانة ” ، وهذا هو نفس الاسم الذي يطلقه الليبيون والتونسيون المعاصرون على هذا الحيوان البرمائي الذي يعرفه عامة السودانيين باسم ” القعونجة ” أو ” القعوية ” على اختلاف طفيف في النطق.
على أنً التداخل والسمات المشتركة بين كلا المجموعتين كائن منذ زمان قديم ، وهي آخذة في الاتساع والتقارب بما يمكننا بكل سهولة من الحديث عن عامية عربية سودانية واحدة هي الآن في طور التبلور ، ممثلة فيما درج الباحثون على تسميته بلهجة أم درمان.
وفي ظني أن المتكلمين بالعربية في السودان في مختلف أصقاعه الواسعة ، كانت لهجاتهم متقاربة ومتجانسة إلى حد كبير في السابق ، وإنما حدث شئ من التباعد النسبي بسبب المؤثرات الخارجية فيما نرجح ، وخصوصا الأثر الطاغي للهجة المصرية خلال التركيتين السابقة واللاحقة. هذا ، ولا يزال أثر اللهجة المصرية ماثلا ومحسوسا ومستمرا فيما يبدو على عامية آهل السودان المعاصرة ، , وخصوصا سكان المدن. أذكر أننا إلى زمان قريب كنا نصف الكرة التي ينحرف مسارها عن الهدف مثلاً ، بأنها ” صرًجت ” ، وهي كلمة سودانية أصيلة لم اقف لها على تخريج ، ولا أدري إن كان العلامة عون الشريف قد أوردها في قاموسه أم لا؟ ولكنني بتّ مشفقاً على ” صرًجت ” هذه من أن تصرًج وإلى الأبد من كلام أهل السودان. ذلك بأنني صرت أسمع بعض معلقينا الرياضيين مؤخرا يصفون مثل تلك الكرات بانها ” قلشت ” تأثرا باللهجة المصرية ، بعد سودنة النطق المصري للقاف ” ألشت ” بقاف سودانية معقودة. فتأمل!
ومما قوى حدسي بأن عامية أهل السودان القديمة كانت تتسم بقدر كبير من التجانس ، هو أنني قد وقفت في نصوص قديمة وموثقة من تراث وسط وشمال السودان ، على ألفاظ وتراكيب هي الآن ألصق بلهجات غرب السودان العربية ، ولم تعد تستخدم في تلك المناطق في الوقت الراهن. مما يدلك على أن اللهجة كانت شديدة التجانس. ومن ذلك مثلا استخدام ” كيف ” في كردفان خاصة ، كأداة تشبيه بدلا من ” متل ” أو ” زي ” ، كما هو الاستخدام الشائع الآن في وسط وشمال السودان ، وجدتها في شعر حاج الماحي ( توفي في حوالي عام 1871 ). يقول حاج الماحي رحمه الله في مدح النبي (صلعم) ، في قصيدة:
النورو داما الحجيجو قاما
أرح نزور شافع القيامة….
حيث يمضي في بيان صفاته الخلقية صلى الله عليه وسلم فيقول:
فمّو كيف دارة الختاما
يعني أن فمه حسن ودقيق مثل دائرة الخاتم
قلت: استخدام ” كيف ” أداة تشبيه في محل ” مثل ” أو كاف التشبيه ، صيغة أندلسية وشمال إفريقية بامتياز ، وهي لا تزال تستخدم بذات الدلالة من لدن ليبيا حتى موريتانيا. أما أندلسيتها ، فيشهد عليها قول لسان الدين بن الخطيب في الموشحة الشهيرة: ” جادك الغيث “:
وروى النعمان عن ماء السما
كيف يروي مالك عن أنس..
أي كما يروي مالك عن أنس.
كذلك وقفت في كتاب الطبقات محمد النور بن ضيف الله ( ت 1810 ) ، وهو من أهل الحلفاية بوسط السودان ، على الفعل ” ركًب ” براء مفتوحة بعدها كاف مشددة مفتوحة ، بمعنى ” سلق ” الطعام سلقا ، كاللحم أو الفول السوداني أو الذرة ” البليلة “. وهذه اللفظة بهذه الدلالة قد اختفت من لهجات وسط وشمال السودان ، وبقيت دارجة على الألسن في اللهجات العربية بغرب السودان التي لا يندر أن تسمع أحد المتحدثين من أهلها يتكلم عن الفول ” المركًب ” ، في مقابل الفول ” المقلي ” مثلا. بينما في لهجة وسط السودان ، فقد اختفت ” مركًب ” هذه تماما ، واستعيض عنها ربما بقولهم ” مسلوق “. فكأن ركًب البليلة في النار هي ” شدًاها ” في النار وهي لفظة أخرى تحمل نفس المعنى. جاء في ترجمة الشيخ ( المسلمي الصغير ) ، في كتاب الطبقات ما يلي: ” وجاء غلمان شحدوا ليهم عيش وتقاسموه فوق دبًة الحفير ، أحدهما ساقه معاه وعيشه الشحدو ، ركًبه بليلة اتعشى هو والمسلمي منها “. وقد شرح محقق الطبقات بروفيسور يوسف فضل ركًبه في الهامش بمعنى وضعه على النار. وإلا فإنها لا تحتاج لشرح بالنسبة لأهل غرب السودان.
هذا كله من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، فقد هيأ لي اشتغالي بالدبلوماسية فرصة العمل بسفارة السودان بتشاد خلا ل الفترة 1989 – 1993 ، مما مكنني من الاستماع والاطلاع على عربية تشاد الشديدة الشبه بعربية دار فور على وجه الخصوص أيضا. فكأنني قد اكتنفت المجال الجغرافي موضع دراسة الدكتور إبراهيم من كلا جانبيه.
ملاحظات وتعليقات على شروح بعض الألفاظ الواردة في الكتاب
· قول الكاتب في صفحة 286 من الكتاب: ” ومما أثًرت به الثقافة الحميرية على عامية دار فور ، استخدامهم أداة التعريف الحميرية ( امْ ) بمعنى ( ال ) في كلمات كثيرة ، تشمل الأسماء والصفات وغيرها الخ.. “. وهذا قول صحيح ، سوى أنني أرى أنّ تأثير ( امْ ) الحميرية لا يقتصر على اللهجات العربية في كردفان ودار فور وحدهما كما كنت اعتقد انا نفسي من قبل ، وإنما يثبت ذلك التأثير بذات القدر على سائر اللهجات العربية في وسط وشمال السودان ، ومن ذلك ما أشار إليه المؤلف نفسه في صفحة 287 وهو محق ، من أنّ أمْبشّار أو ” أم بشّار ” ، وهي الطيور التي تأتي في الخريف مبشرة بقدوم المطر ، إنما هي ( طير البشّار ) قلبت ( ال ) فيه إلى ( أمْ ) ، على طريقة ” ليس من أمبر أمصيام في أمسفر ” الحميرية. ولكن كلمة ” أم بشار ” معروفة بذات اللفظ والدلالة في الجزيرة والبطانة وغيرهما. كما أن ” أم دلدوم ” التي أشار إليها المؤلف أيضا ، أي ” الدلدوم ” بمعنى اللكمة بقبضة اليد مجتمعة ، هي الأخرى لفظة سودانية مشتركة بين جميع اللهجات العامية في سائر أنحاء البلاد. كذلك أرى – أنا شخصيا – أنّ في لفظة ” أم سالم ” مثلا ، وهم بطن من بطون قبيلة الشايقية المعروفة بشمال السودان ، تأثرا بهذه الطريقة الحميرية ذاتها ، إذ الراجح هو أن ” أم سالم ” هنا معناها ” آل سالم ” أي المنسوبون إلى جدهم سالم. وهذه الصيغة في النسب ب ( أمْ ) الحميرية ، منتشرة جدا في كردفان خصوصا ، في معرض الإشارة إلى أفخاذ بعض القبائل الكبرى وبطونها. ” انظر مكمايكل وغيره في هذا الباب “.
· ص 286 أيضا: ” قولهم أمباكر ، يريدون به الصباح الباكر ليوم غد ، وهذا الاستخدام أكثر شيوعا في جنوب دار فور منه في شمالها. كما قالوا: أمبعدو ، يريدون الصباح الباكر ليوم بعد غد “. أ. هـ . قلت وفي تشاد يقولون ” أمباكر ” هذه يريدون غدا ، و” أمبكره ” ، ويعنون بها بعد غد.
· ص 286/287 : ” ومن هذا الباب أيضا ( باب امْ الحميرية ) ، تسميتهم الطفل الصغير الذي يدفع به والده إلى الخلوة: ( الكتّاب ) ليتعلم مبادئ القراءة والكتابة: (أمْبدّي ) ، وقد تسموا به ، وإنما هو ( البادئ ) ، أحدثت فيه العامة ضربا من التغير ، فحذفوا منه الألف ، وضعّفوا الدال ، كما حذفوا منه الهمزة تخفيفا.. ثم أدخلوا عليه ( امْ ) الحميرية ، فقالوا ( أمْبدّي ) “. أ.هـ. قلت: الراجح هو أنّ ” أمبْدّي ” التي ذكرها الدكتور إبراهيم هنا وأجاد في تخريجها ، هي نفسها أصل الاسم الذي يطلق على هذا الحي الشهير الواقع غرب مدينة أم درمان المعروف ب ” أم بدّة ، وصارت تجمع بأخرة على ” أم بدّات ” لكثرتهن المفرطة. قالوا: كان ” أم بدّة ” ، والصحيح ” أمبدّة ” لفظة واحدة ، لأنه ليس هنالك شئ اسمه ” بدّة ” قائما بذاته لتكون له أم أو صاحبة ، أميراً في المهدية من قبيلة ” دار حامد ” ، احتفر بئرا في تلك المنطقة ، واجتمع الناس من حولها فصارت قرية عرفت باسمه. ولا أدري إن كان هو نفسه ” أمبدّة ود سيماوي ” شقيق تمساح ود سيماوي ، ناظر عموم دار حامد سابقا أم لا. على أنّ أهل هذه المنطقة الأصليين هم من قبيلة الجموعية. والرأي في شأن ” أمبدّة ” أو ” أمبدّي ” كما اوضح المؤلف ، هو أنّ مثلها هو مثل اسم ” أم بلّي أو أمبلّي ” المنتشر علما بين الذكور بوسط السودان كالجزيرة والبطانة وبعض نواحي الصعيد. فالراجح أنه أيضا ” البلّة ” ، أدخلت عليها ( امْ ) الحميرية ، وإميل آخرها أو كسر.
· ص 288: ” وأسموا نوعا من الإدام ، ساذجا تفلا ب ( امبلت ) ، وهو نوع من أنواع ادام الفقراء ، إذ هو سريع الإعداد ، قليل التكلفة ، لأنه خال من الزيت والقديد ( الشرموط ) ، والتوابل ، وإنما هو ( البلت ) ، من قولهم ” أبلط الرجل إذا أفلس ” وقد أبدلوا من الطاء تاءً كما ترى. ” أ.هـ. قلت: هذا الضرب من الأدام الساذج التفل كما وصفه المؤلف معروف في كردفان غير أنهم ينطقونه ( أمْبلط ) بالطاء المحققة . ولعلّ طاءه قد تحولت إلى تاء بسبب تأثير اللغات غير العربية في دار فور. وهو صنو ما يعرف ب ” أم شعيفة ” في سائر انحاء السودان. بيد أنني لا أرى أن اشتقاق ( أم بلت او أم بلط ) من أبلط الرجل إذا أفلس كما ذهب إلي ذلك الدكتور إبراهيم مستشهدا بما جاء في هذه المادة في المعجم الوسيط ، وإنما الراجح هو – إن شاء الله – أنها من قبيل الكلم الحاكي أو المصور للمعنى Onomatopoeia . أي كأنما هي مجرد محاكاة لصوت انزلاق تلك اللقمة بذلك ” الملاح ” البايخ التفل ،الذي لا يكون فيه شئ غير الويكة اللزجة هكذا: ( بلطْ ! ) كما صورتها روح دعابتهم الساخرة.. والله أعلم.
· ص 345: من بين الفوائد الجمّة التي خرجت بها من هذا الكتاب ، تخريج المؤلف لكلمة ” بنجوس ” التي يطلقها السودانيون عامة على الطفل الصغير. وقد قال في ذلك: ” بنجوس: ويجمعونه على بناجيس ، للصغير الجرم خلقة ، وهو في الأصل صفة إلا أنها تتحول في بعض الأحيان إلى اسم علم. وبنجوس عند عامة دار فور ، إنما هو ( بنقوس ) عند العرب . قال في القاموس: ” البناقيس: ما طلع من مستدير البطيخ ، الواحد بنقوس بالضم. وبناقيس الطرثوث شئ صغير ينبت معه “.
· ص 349: ” الدّود: الدّود عند عامة دار فور ، هو الأسد، ولم أجد لها أصلا بهذا المعنى في اللغة. وتفننوا في التسمية به ، فقالوا: دودة ، ودودين ، ودو بنجة ، أي الأسد الرابض ببلدة بنجة ، ويبدو أنه كان شرسا. ” أ.هـ. قلت: لفظة ” دود ” بمعنى أسد وتداولها كمفردة بهذه الدلالة في جميع اللهجات العربية بالسودان ، هي حقا من العجائب المدهشة فيما يتعلق بأوابد الألفاظ العربية الموغلة في القدم والفصاحة ، التي احتفظت بها الذاكرة الجمعية لأهل السودان قاطبة ، وليس أهل دار فور فحسب. ويبدو أنّ هذه اللفظة قد استقرت في عربية أهل السودان منذ زمن قديم جدا ، ربما يكون سابقا للهجرات العربية التي حدثت بعد ظهور الإسلام. فالدود عند كافة أهل السودان هو ” الأسد ” كلمة واحدة. ومنه قول شاعرهم الشعبي:
الدود النتر صحّى المرافعين خوف
وقول الآخر:
قالوا الدود قرقر .. حبس الدرب
وربما توسّعوا في دلالة اللفظ فصار الدود عندهم يشمل كل حيوان كاسر مفترس ، مثل ما جاء في قصيدة ” التمساح ” لحاج الماحي:
قول للدود من بلدي اتفضّل .. الخ
ومثل ما حار الدكتور إبراهيم إسحق في ” الدود ” هذه ، فقد طالما حرت ، منذ صغري ، في هذه اللفظة التي كانت دلالتها عندي مقتصرة على ” الدود ” هذه الحشرات الضعيفة المهينة. وكنت أعجب وأتساْءل دائما ، كيف ساغ للسودانيين أن يطلقوا على الأسد ملك الغابة وأعز السباع ، اسم أضعف الكائنات وأحقرها ، حتى استمعت لحديث للعلاّمة عبد الله الطيب عليه رحمة الله في حوالي سنة 1999 ، وهو يقول في معرض تعقيب له على حديث قيل في إحدى الندوات بالخرطوم ، إنّ ” دود ” السودانية بمعنى ” أسد ” مأخوذة من ” دودان ” ، وهي كما قال لفظة حميرية قديمة تعني ” الأسد ” بالضبط ، منبّها في ذات السياق إلى أنّ الحميريين كانوا يجعلون أداة التعريف ( ال ) ، ألفاً ونوناً في آخر كلامهم مثل قولهم ( عقربان في العقرب ، وثعلبان في الثعلب ، وأفعوان في الأفعى الخ ) . وتأسيساً على ذلك ، تكون دودان الحميرية هي ( الدود ) السودانية ذاتها ، أعيدت صياغتها وفقا للقواعد الصرفية للعربية العدنانية ( الشمالية ) ، بحذف الألف والنون من آخرها ، وإضافة ألف ولا م التعريف إليها. وأذكر أنّ البروف رحمه الله أورد شاهدا على ذلك صدر بيت لامرئ القيس يهجو فيه قبيلة بني أسد ويعرّض بهم باسمهم الحميري جاء فيه:
إنّ دودان عبيد العصا …
ولم يكمل البيت . ولكنّ في صدره كفاية. ثم إنّي عثرت على ” دودان ” هذه التي هي بمعنى ” أسد ” ، في شعر الأعشى ميمون بن قيس ، حيث يقول في قصيدة لامية له أثبتها أبو زيد القرشي في كتابه: ” جمهرة أشعار العرب “:
من نواصي دودان ، إذ حضر البأ س وذبيان والهجان العوالي
وقد شرحت لفظة ” دودان ” في النسخة التي وقفت عليها من هذا الكتاب بانها تعني: ” قبيلة من بني أسد ” ، والصحيح أنها قبيلة بني أسد كلها.
كذلك وقفت عليها في شعر النابغة حيث يقول مفتخرا بأنه قد أعان بني أسد على بني عبس:
وقد نصرت بني دودان إذ نشدوا حلفي ولو نشدوا بالحلف ما غدروا
هذا ، والراجح أنّ ” الدّودو ” الذي خطف شليلاً ، هو ” الدود ” نفسه ، أي الأسد ، وإنما أشبعت ضمته فصارت واواً ، لكي تناسب قولهم ” وينو! ” في السجع.
· ص371: ” كبْرى: تسمى البنت ( كبْرى ) إذا تمنى والداها أن تحسن ، أو تعظم في أعينهما وأعين الآخرين مكانةً وشأنا الخ.. ” أ.هـ. قلت: هذا جائز ، والراجح عندي أنهم أسموا بناتهم ( كبرى ) ، تيمّناً بالسيدة خديجة الكبرى ، أمّ المؤمنين ، وأولى زوجات النبي صلى الله عليه وسلّم. والقوم ثقافتهم إسلامية ، وهم يسمعون يدعون الله لآل البيت بمثل قولهم: ” اللهم ارض عن سبطي نبيّك سيدي شباب أهل الجنّة ، وعن أمهما فاطمة الزهرا ، وعن جدتهما خديجة الكبرى .. ” الخ.
· ومن متعلّقات الثقافة الماديّة ، ذكر الدكتور إبراهيم في صفحة 389 من الكتاب ، ” الكدنكورة ” ، بكاف ودال مفتوحتين ، بعدهما نون ساكنة ، تليها ” كورة ” التي ينبغي أن تنطق كما ينطق السودانيون اسم هذا الإناء المعروف عندهم. وقد عرّف الكاتب الكدنكورة بأنها: ” أداة من الحديد معقوفة ، يركّب عليها عود طويل ، وتسوّى بها الحفر والنتوءات. ” أ.هـ.
قلت: الإسم كدنكورة معروف بذات اللفظ في كردفان ، سوى أنّ الكدنكورة عندهم عبارة عن مسحاة مستطيلة الشكل ، تكون من عود أو خشب ، وتركّب فوق مقبض طويل من عود أيضا في شكل الحرف T ، واستخدامها هو ذات الاستخدام ، أي تسوية الحفر والنتوءات ، وخصوصاً ” فج التقاة ” لدرس الذرة أو الدخن الخ.
· ومن المعلومات التي كانت غائبة عن إدراكي ، وأجدرها بالتأمّل ، ما ذكره المؤلف في صفحة 419 ، من أنّ عامة دار فور يسمّون الختان تعريبا ، حيث يقولون: ( فلان عرّب عيالو ) ، أي ختنهم ، بمعنى أنّ الختان من عادات العرب. وهذا لعمري دليل على أنّ الاستعراب إنما يتم بالفعل ، عن طريق التلاقح الثقافي ، وليس التمازج السلالي بالضرورة.
وفي الختام ، فإنني أدعو القراء بصفة عامة ، وخصوصا ذوي الاهتمام من الدارسين والباحثين ، إلى الاطّلاع على هذا السفر القيّم ، الذي جاء في تقديري ، ليتبوء مكاناً مرموقاً جداً في المكتبة السودانية ، وليسهم بمعرفة ، وعلم ، ودراية ، بوضع لمسات زاهية على لوحة المشهد الثقافي الشديد الثراء والتنوع. وبهذه المناسبة أقول يا حبّذا لو انبرى نفر من أبناء المناطق التي توطّنت فيها اللغة العربية في خضّم محيط من اللغات الوطنية القديمة الأخرى ، وعلى خلفية تعدد لغوي يتّسم بالتداخل والتفاعل ، مثل ديار البجة ، أو مناطق النوبيين في أقصى شمال السودان ، أو جبال النوبة ، بغرض إبراز السمات المميّزة للهجات العربية في تلك المناطق ، على نحو ما فعل الدكتور إبراهيم آدم إسحق في هذا الكتاب الرائع.
* وزير مفوض بالخارجية السودانية وباحث في الإنسانيات
اضف تعليقا