إن من المفردات العامية السودانية كلمة (الفَسِل)، وهي تُطْلَق فقط في مقام الذم، فالفَسِل عندنا: هو النَّذْل الرَّذْل الذي لا مروءة له. والمصدر: (الفَسَالَة)، وهي (الكَعَابَة)-بالعامية- أي قُبْح الصفات، وقلة المروءة، ولُؤْم الطباع.
✾ ومن الأمثال السودانية الدارجة: (الخلاء ولا الرفيق الفَسِل)؛ يعني لأن يكون الإنسان بعيداً عن أهله، هائماً على وجهه في الخلاء، في أصقاع البراري ورمال الصحاري، بلا مأوى ولا ظل؛ خيرٌ له من مصاحبة رفيق نَذْل لا مروءة له.
✾ ويقولون عن الدنيا: (كَعَب البِفْسَل فيها)؛ يعني الدنيا ليست سيئة في ذاتها، ولكن السيئ فيها هو من كان نذلاً بلا مروءة ولا أخلاق حسنة.
وفي الفعل يقال: (فِسِل)، و(اتْفَاسَل)، و(اتْفَسَّل).
✾ يقال عندنا بالعامية: (والله الزول دا اتْفَاسَل فينا فَسَالَة شديدة)؛ يعني تعامل معنا بكل نذالة وقلة مروءة.
وقد نستخدم الكلمة على سبيل المجاز، فنقول: (فِسْلَت فينا الدنيا)، و(اتْفَسَّل فينا الزمن)، وهكذا.
🖊 قال الشاعر ميرغني الكردوسي①:
أيام الطرب رَاحَن زمـننا اتْفَـسَّل
وشُـتِّيت العروض مَلَّص ملابسو وغَسَّل
شفناهـو العريس في أمريكا لي مَرَة رَسَّل
لُو داير أربعين لا ملايكة②،شهرو وعَسَّل
والشاهد من كلام الشاعر هو قوله: (زمننا اتفَسَّل)، بمعنى (فِسِل) و(اتْفَاسَل)، ونسبة الفَسَالَة إلى الزمن هي من باب المجاز.
🖌 قال البروفيسور عون الشريف قاسم: (“فسل”: (س ف) [=سودانية فصيحة]: الرَّذْل ومن لا مروءة له.
قال الشاعر: “بالشِّين والفَسِل بقينا نتباحت”.
ويقال: “تَفَسَّل فلانٌ في فلان”: أساء معاملته)③.
📚 وإذا رجعنا إلى معاجم اللغة العربية المعتمدة نجد أن كلمة (فَسِل) التي نستخدمها في عاميتنا السودانية كلمة عربية قُحَّة، ضاربة بجذورها في أعماق لغة العرب العتيقة.
فـ(الفَسْل) عند العرب: هو الرَّذْل النَّذْل الذي لا مروءة له. يقال: فَسُلَ، يَفْسُلُ، فَسَالَةً. من باب كَرُم يَكْرُمُ④. وهذا هو نفس المعنى الموجود في عاميتنا السودانية.
والكلمة في لغة العرب بسكون السين (فَسْل)، ولكن نحن نكسرها (فَسِل) من باب التسهيل كعادتنا في العامية.
📍 ومن عجائب العامية السودانية: أنها أطلقت على البخيل لقب (الفَسِل)، مع أن معناه: الرَّذْل النَّذْل الذي لا مروءة له، كما بيناه آنفاً.
ويمكن توجيه ذلك من خلال أمرين اثنين:
❍ الأمر الأول: أن البُخْل صفة ذميمة تُسْقِطُ صاحبها؛ فالبخيل غالباً ما يكون عارياً من مكارم الأخلاق؛ إذ البخيل لا مروءة له، وهو إنسان دنئ ونذل في سائر أحواله.
❍ الأمر الثاني: أن أصل الكلمة يرجع إلى القِلَّة، وهي الشُّح.
🖍 قال ابن فارس: (“فَسُلَ”: الفاء والسين واللام أصلٌ صحيحٌ يدل على ضَعْفٍ وقِلَّةٍ؛ من ذلك: الرجل الفَسْل، وهو الرَّدِيءُ من الرجال)⑤.
وهذا استعمالٌ جميل ومعبرٌ للكلمة في حق البخيل، وله أصلٌ صحيحٌ في لغة العرب العتيقة. فوصف البخيل بالفَسْل في عاميتنا السودانية يُرْجِع الكلمة إلى أصلها القديم ومهدها الأول الذي كانت عليه في لغة العرب.
💡 ولم أقف على هذه المفردة في العاميات العربية الأخرى-في حدود علمي البسيط-، اللهم إلا في “العامية السورية”.
🖋 قال ياسين عبد الرحيم: (“فَسْلِة”: العمل القبيح الدال على نقص المروءة)⑥.
والشاميون ينطقونها (فَسْلِيهْ) كما هي عادتهم في استخدام الإمالة.
🔦 أقول: في كل يوم، بل في كل لحظة يزداد إعجابي بالعامية السودانية بسبب قِدَم مصطلحاتها، وفصاحة كلماتها، وجزالة مفرداتها، وعمق معانيها، وارتباطها الوثيق بلغة العرب التليدة؛ حتى يظن الباحث أنه ينطق بكلام العرب الأقدمين. ولا عجب في ذلك؛ فإن العامية السودانية ابنةُ شرعية للغة العرب، فدارجتنا ذات جذور أصيلة، ومنابت أَثِيلَة.
☜ ويحاول عبثاً بعض الشعوبيين من دعاة (الكُوشِيَّة) المتمسحين بـ(السُّودَانَوِيَّة) أن ينكروا انحدار العامية السودانية من لغة العرب، بل يَدَّعُون أنها ذات أصلٍ كوشيٍّ من بقايا اللغات المندحرة وشبه المنقرضة مثل اللغة المروية واللهجات النوبية والبجاوية، وحتى بقية اللهجات الأفريقية الأخرى!.
وهيهات لهم أن يصلوا لبُغْيَتِهِم؛ فإن ذلك أمر يعسر عليهم كثيراً، بل يستحيل؛ فدونهم خرطُ القَتَاد. وما مثلهم إلا كمثل من ينفخ في صخرة ضخمة يريد أن يفتتها ويسقطها بلا جدوى!.
✿ الهوامش:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
① هو الشاعر ميرغني ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺍﻟﻜﺮﺩﻭﺳﻲ، المشهور بـ(ميرغني الكردوسي). والكردوسي نسبةً إلى فرع الكراديس من قبيلة البوادرة. وُلِد بقرية الكراديس بمدينة القضارف سنة 1968ﻡ. وهو من أكبر شعراء الدوبيت المعاصرين في السودان بعامة والمنطقة الشرقية بخاصة، وهو شاعر مطبوع، شعره رصين، ومفرداته عامية قديمة. له أشعار كثيرة في شتى أغراض الشعر، وله مشاركة في كثير من البرامج التلفزيونية والإذاعية. وقد قَدَّم الباحث الطيب العشاري رسالة ماجستير عن شعره بعنوان: “دراسة في الشعر الشعبي (الدوبيت) بين الاستمرارية والتغير: الشاعر ميرغني الكردوسي نموذجاً”.
② موضوع (الأربعينية) للعريس، واعتقاد وجود (ملائكة) يصاحبون العريس هي من المسائل الفلكورية في الثقافة الشعبية السودانية. والتعليق عليها يحتاج إلى دراسة مستقلة، وليس هذا موضع الحديث عنها. ولعلنا نتناولها قريباً في دراسة خاصة بمشيئة الله تعالى.
③ “قاموس اللهجة العامية في السودان” (ص: 725).
④ ينظر: “كتاب العين” للخليل بن أحمد (7/ 260)، “الصحاح” للجوهري (5/ 1790)، “لسان العرب” لابن منظور (11/ 519)، “مختار الصحاح” لزين الدين الرازي (ص: 239).
⑤ “مقاييس اللغة” (4/ 503).
⑥ “موسوعة العامية السورية” (2/ 1758).