شذرة من العامية السودانية: (اللُّمَّاصة):
بقلم: أبوسهل طه الطيب
من الكلمات الدارجة في عاميتنا العربية السودانية كلمة: (اللُّمَّاصة)، وهي تعني ماء العجين الذي تضع فيه المرأة (القَرْقَرِيبَة)① آلة تسوية العجين في الدُّوكَة =الصاج لصنع الخبز= الكِسْرَة.
✸ وللتوضيح أقول: هنالك إناءان في العواسة:
● الأول: ماعون العجين الذي تغرف منه المرأة بالـمُغْرَاف. وليس هذا موضع البحث!.
● والثاني: ماعون آخر به ماء، تُدخِل فيه المرأة التي “تعوس الكِسرة” القَرْقَرِيبَة، كل مرة تريد أن تخبز فيها طرقة كسرة؛ لتتخلص من بقايا العجين في القَرْقَرِيبَة. ويحصل غمس ليدها في الإناء.
ولذلك تقول المرأة لابنتها: (أديني ماعون العجين البَتْلَمَّص فيهو)؛ وتعني ذلك الإناء الذي تضع فيه أطراف أصابعها.
وهذه المفردة موجودة في كل بيت سوداني تُعَاس فيه الكسرة، وربما يجهلها الذين أغرقوا في المدنية وأوغلوا في التَّحَضُُّر، وهم يعتمدون على الرغيف، ولا يصنعون خبز الكسرة في بيوتهم، فهم يجهلون كل مصطلحات الكسرة من الدُّوكَة، واللَّدَايَة، والقَرْقَرِيبة، والـمُعْرَاكَة، والـمَسْحَة، واللُّمَّاصَة، وهَلُمَّ جَرّاً.
📖 أعود فأقول: هذه المفردة ذكرها البروفيسور عون الشرف قاسم في “قاموس اللهجة العامية”، حيث قال: (اللُّمَّاصة: بقية العجين في الـجَرَّة، يُصَب عليه الماء: “عَمَى كَبَاسة اليِلَحِّسَك اللُّمَّاصة”، ولعلها مُوَاصة)②.
🔰 ولا يستريب الباحث في أصالة هذا التعبير وثبات جذوره العربية القديمة؛ فـ(اللُّمَّاصة) تنزع إلى لغة العرب؛ حيث أن أصل الكلمة مِن لَمَصَ الشيءَ، يَلْمِصُهُ، لَمْصاً؛ إذا أخذه بأطراف أصابعه فلَطَعَهُ③.
🖊 قال ابن دُرَيْد: (اللَّمْص: أن تأخذ الشيء بطرف إصبعيك فتلطعه، نحو العسل وما أشبهه)④.
ولا شك أن المرأة التي “تعوس” تدخل أطراف أصابعها في ماء العجين كلما أرادات أن تخبز “طَرَقَة كِسْرَة”، وهذا معروف لدى كل السودانيين.
🔊 ومن هنا نعلم أن قول عون الشريف قاسم: (ولعلها مُوَاصة) غير سديد؛ حيث أن اللُّمَّاصَة من اللَّمْص، وهو نفس المعنى العربي القديم.
ولا ننكر أن في بعض المناطق السودانية يطلقون على اللُّمَّاصَة: الـمُوَاصَة، وهو تعبير صحيح فصيح أيضاً، ولكنه ليس أصلاً للُّمَّاصة، بل كل كلمة لها معنى معين.
فالـمُوَاصَة من الـمَوْص؛ يقال: مَاصَ الشيءَ، يَـمُوصُهُ، مَوْصاً إذا غَسَلَهُ، والـمُوَاصَة: هي غُسَالَة الشيء⑤.
🖍 قال ابن سيده: (الـمُوَاصَة: الغُسَالَة، وقيل: الـمُوَاصَة غُسَالَة الثياب، وقال اللحياني: مُواصَة الإناء وهو ما غُسِلَ به أو منه، يقال: ما يسقيه إلا مُوَاصَة الإناء)⑥.
فإذا أطلقنا على اللُّمَّاصَة: الـمُوَاصَة فهو إطلاق صحيح وله معنى صحيح أيضاً؛ حيث أن ماء العجين الموجود في الإناء هو في الحقيقة غُسَالَة القَرْقَرِيبة.
وبهذا ندرك تماماً أن العامية السودانية هي من ضمن العاميات العربية المعاصرة، بل من أفصحها، وهي بنت شرعية للغة العربية العتيقة؛ فكثير من مفرداتها ومصطلحاتها ذات أصول عربية ضاربة في القِدَم، لا يُـمَارِي في ذلك إلا جاهل أو مكابر.
🚫 ومن أبطل الأقوال قول بعض الشعوبيين السودانيين الذين يرون أن العامية السودانية هي لهجة أعجمية من بقايا اللغات الكوشية القديمة؛ حيث أن فصاحة الكلمات السودانية وانحدارها من كلام العرب الأوائل يدحض هذا القول ويجتثه من جذوره.
وهذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وقديماً قال الشاعر:
وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ ** إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
❐ الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
① القَرْقَرِيبَة: كلمة نوبية الأصل، وتعني صفحة من سعف الدوم تبسط بها النساء العجين في الدُّوكَة= الصاج. ينظر: “قاموس اللهجة العامية في السودان” لعون الشريف قاسم (ص: 762)، “النوبية في عامية السودان” لميرغني ديشاب (ص: 68). وأصبحت تُصْنَع في الأزمنة المتأخرة من أنابيب الإطارات. ولعلنا نتناولها بالدراسة في مقبل الأيام بمشيئة الله تعالى.
② “قاموس اللهجة العامية في السودان” (ص: 899).
③ ينظر: “جمهرة اللغة” لابن دُرَيْد (2/ 897)، “المحكم والمحيط الأعظم” (8/ 336)، “المخصص” (4/ 36) كلاهما لابن سيده، “لسان العرب” لابن منظور (7/ 88)، “تاج العروس” للزبيدي (18/ 150).
④ “جمهرة اللغة” (2/ 897).
⑤ ينظر: “الصحاح” للجوهري (3/ 1058)، “المحكم والمحيط الأعظم” لابن سيده (8/ 392)، “لسان العرب” لابن منظور (7/ 95).
⑥ “المحكم والمحيط الأعظم” (8/ 392).