إبراهيم الفراش

شاعر بربر

تقديم 

السمة التي كان يتميز بها (ود الفراش) على (الحردلو) أنه كان متحضراً ، بينما كان الأخير متبدياً ، وأنه كان متحرراً ، بينما كان الأخير محافظاً ، وأنه كان يمثل الكثرة الشعبية في ( السافل ) ناطقاً بلهجتها معبراً عن تطلعاتها ، مبيناً خصائصها ، في حين أن الآخر كان يمثل الأرستقراطية القبلية في أواسط السودان وشرقه ، ناطقاً بلهجة أهل الصعيد ، مصوراً لأخيلتهم ومحابهم ومكارههم .

وفي الوقت الذي كان فيه (الحردلو) يعنى باسترضاء الشخصيات الكبيرة والحاكمة ، ويستقصي مشاكلها ويطوق أزماتها ، ويعالج هموم معاشها ومتاعبها ، لم يكن ود الفراش مرتبطاً بأمثالها … فقد كان طليقاً من هذه القيود … حراً في تصرفاته، سعيداً بهذه الحرية لا يبتغي بها بديلاً .

والصفات التي تعطي ود الفراش وزناً في شعره ، هي البساطة والعفوية والصراحة والسهولة والانسجام وعذوبة الموسيقى … بينما يؤخذ على الحردلو التعقيد والوعورة والالتواء.

وإذا كان الحردلو يتعالى بالعمق والمعرفة الأشمل بطبيعة البلاد وأهلها فإن ود الفراش يسمو باقترابه من الناس ، وألفتهم له ، وتجاوبهم معه .

* * *

هذه معالم عامة عن الشاعرين لم أرد بها الموازنة وإنما أردت بها أن أحدد مكانة ود الفراش بالنسبة لكبير الشعراء في زمانه ، وأن أحاول بقدر ما أملك من فهم في هذا االميدان أن ألقى بعض الأضواء على وضعه ، وأن أسهم في شرح وجهات نظر يبديها بعض المهتمين بالتراث الشعرى في ذلك الجيل .

لقد استمعت إلى شعر ود الفراش في عهد الصبا الباكر في شندي يتغنى به واطلعت عليه بإمعان في هذا الديوان فلاحظت أن ود الفراش كان أميناً في إيضاح واقعه الشخصي ، وخلجات نفسه ، لايكاد يخفي شيئاً أو عساه لم يجد في حياته شيئاً يحتاج إلى إخفاء .

فشعره كان مرآة مجلوة تعكس كل ما يدور بين حناياه وماحوله فى دقة وصفاء وإيجابية وصدق.

* * *

كان ود الفراش قد انخرط في سلك الجندية منذ وقت مبكر ، وكان موطنه ومقر رئاسة عمله في بربر ، عاصمة المديرية المسماة باسمها ، وكان بوصفه جندياً يكثر من التنقل بين بربر والخرطوم وشندي وكسلا وسواكن وكورسكو في

 الحدود المصرية وغيرها إما دليلاً أو حاملاً للبريد أو مرافقاً للقوات الغازية أو محصلاً للضرائب .

وكانت مطيته في جميع تنقلاته ، الجمل ، وكان شاباً وسيماً فحلاً زئر نساء مشغولاً بالمرأة ، كما كانت المرأة مشغولة به … وكان شعره محصوراً في أقانيم خمسة لايعدوها إلا لماماً.

1 . رحلاته .

  1. جمله.
  2. محبوباته.
  3. الوصف.

5 . الاعتزاز بالنفس.

غير أن هذه الأقانيم الخمسة لم تكن تنعزل عن بعضها البعض ، فغزلياته كانت تختلط برحلاته ، وبالحديث عن مطاياه وبمغامراته وبمفاخره وبأحلامه وأمانيه وبنجوى نفسه ، و بما يتعرف عليه من أناس ، ومايستقبله من أحداث .

ولعل ود الفراش كان ينظم الشعر وهو معتلٍ ظهر جمله ، مترنماً به في تنقلاته التي تطول أسابيع بل أشهراً أحياناً .

وإذا تأملت هذا الشعر تأملاً تاماً تحس باهتزاز الجمل وسرعته وهويناه ووقفاته … وأنت في هذا الإحساس تحتاج إلى الخيال والدقة الدقيقة في التصور ولابد أن نظم الثعر خلال امتطاء الجمل وقطع الفيافي الواسعة العريضة الخالية من السكان كانت تزيل عن نفس الشاعر السأم والملالة والوحشة وتبعث في أعماقه دفقات من الانفراج .والنشوة ، كما تخفف من رهبة مخاوفه في زمن انعدم فيه الأمن وتعددت أسباب الخيانة والغدر.

وكان يصنع من شعره أحياناً لوحات فنية تكاد تكون مكتملة عن الحياة الاجتماعية ، والعمرانية في المنطقة التي يقيم فيها أو يزورها .

انظر إليه يتحدث عن ( البنيان ) – وهم الهنود – في إحدى رحلاته لإقلم البجه خلال وصفه للرحلة .

قال:

من هندوب غرب شفت السرايه

بشم طيباً عبق مسك الجداية

بشوف ناساً سلامن لى دباى

ترى البنيان أهل نعمه وعرايا

وها هى لوحة فنية أخرى تكاد تكون مكتملة عن بربر وما طرأ عليها من تطور باعتبارها ملتقى طرق القوافل ومركزاً متقدماً للقادمين إلى السودان من مصر وغيرها ومجتمعاً خليطاً.. تسللت إليه جنسيات متعددة، وسوقاً كبيرة تأتيها البضائع من الخارج والداخل، ويستمتع أهلها بشيء من الترف والرفاهية بعد أن انتقلت إليهم أدوات الحضارة ومظاهرها في الشرق الأوسط.

وتتمثل هذه اللوحة في بضعة أبيات اشتهرت، ورويت في صور مختلفة عن تلك المدينة الحاشدة المتحضرة المترفة:

قال:

بشوف بربر بشوف جوخه وحريره

بشوف الميضنة الفوق الجزيرة

بشوف ركب العبابدة ال بى خبيرة

ترى البردين كسح فات القطيرة

بشوف تربيزة فيها ثمانية بيرة

ويستكمل هذه اللوحة، عندما يشير إلى إحدى محبوباته فيقول:

كمان في إيدها لابسة الماظ خواتم

وللجمل عند ود الفراش مكانة لا تعدلها مكانة.. فهو زميل أسفاره، وحامل ثقله، ونجيه في الفلوات.

وديوانه هذا وهو على ما يعتقد لا يجمع كل شعره.. قد سيطر ذكر الجمل على الكثير منه وأورد هذه الأبيات المفردة كمثال على ما تقدم قال:

بشد واركب على البعجب خبيبه

في ستين قعود ما لقيت وهاطه

شد واركب على ود أم حنانة

كربت يا جمل شايف نسون

لابسات كيد فقير جنفص ملون

ثم اقرأ هذه الأبيات، وما تشتمل عليه من عبارات عاطفية تكشف عن هذه الصلة بين ود الفراش ومطيته.

جملي اب غرد

مني عب وقام شرد

كان الحسنة بتسد ليها قد

يا جملي تبقى لى ولد

ومحبوبة ود الفراش (الدون) قد أصبحت علماً في السودان لا يقل عن اسم ود الفراش نفسه، وشعره فيها مدحاً وقدحاً قد تدوول كما تدوول شعره في حسناوات أخريات، بل وتدوول ذكر بعض غزواته الغرامية، وقد استعمل البندقية في إحداها عندما هوجم في شندي.

وكان لا يعرف العنصرية في حبه فهو شغوف بكل حسناء – وكدت أقول كل أنثى – من أى جنسية وأي عرق وأي لون.

وقد قال في فتاة تركية خلبت لبه هذه الأبيات:

عَايِنْ قَعْدَتَه وْعَايِنْ زَمَانَ

تُوَغِّلْ فِينَا ما بْتَنْضُمْ مَعَانَا

تُرْكاوِيَّة ما بْتَعْرِفْ لُغَانَا

مُوَرَّدْ لُونَا يَعْجِب شِنْتِيَانَ

ويصور قسم من شعره اعتزازه بنفسه كشاب قوي شجاع

قال:

أنا شوك الكتر إن جرجروني

أنا الجن البسوي الزول ينوني

قال:

أنا فرج العيال وقتين يضيقوا

أنا الدابي الرصد للزول بعيقو

أنا المأمون على نسوان فريقه

وقال:

أنا البحر الكبير الدابو حَمّرْ

أنا قدحة زناد مدفع معمَّرْ

وله في الشكوى قوله:

نشكو ليك يا عالم الحقائق

لا ماهية لا بنصرف علائق

وفي الاتجاه الديني قوله:

أزور سيدي الحسن أنظر ضريحه

بدور بى جاهه فراش يلقى ريحه

وهذان البيتان يكشفان عن ختمية واضحة.

* * *

هذه لمحات عن حياة الشاعر استخرجتها من ديوانه وبعض المصادر الأخرى.
محمد علي الفراش.

تمهيد

هذا الكتاب جزء من مذكرات – ضاع معظمها – بدأتُ في جمعها منذ عهد الدراسة عن أحمد الفراش ، شقيق الشاعر ، وابنه علي المتوفيين في عامي 1948و1969 على التوالي. ولولا ضياع معظم ما جمعته لكان لهذا الكتاب وضع وحجم مختلفان.

وقد حفزنى لإعداد هذا الكتاب إلحاح كثير من الإخوان عندما ظهركتاب الحاردلو: شاعرالبطانة للدكتورعبد المجيد عابدين والاستاذ المبارك إبراهيم . وقد كان الحاردلوصديقاً ومعاصراً لابراهيم الفراش .

كما حفزني لإعداده ، أيضاً ، ما كنت أسمعه من حديث بعض الأدباء عن الشاعر من دار الإذاعة ، والذي يبدو منه أن بعضهم اعتمد فيه على مصادر خاطئة.

محمد علي الفراش

مقدمة

 

بربر:

تقول رواية تاريخية شفوية شعبية، أنه كان في سالف الزمان امرأة نوبية تسمى بربرة، تحكم مدينة بربر والقرى المجاورة لها، ومن اسمها اشتق اسم المدينة.

ويقال إنه كان لهذه الملكة عبدان وجارية، وكانوا من المقربين إليها حتى جعلت أحد العبدين، واسمه الدانقيل، حاكماً على قرية في شمال المدينة، لا تزال تعرف بهذا الاسم إلى يومنا هذا. وجعلت العبد الآخر حاكماً، أيضاً، على منطقة تقع في شمال غرب بربر، وكان يقال له النخرة وباسمه يعرف الجبل الممتد هناك شرقاً وغرباً حتى مضرب خيام قبيلة الحسانية، وخلف هذا الجبل شمالاً قبر طوله نحو مترين، قيل إنه قبر نبي من الأنبياء يقال له الشيخ هلال. وكانت الجارية (الفرخة) تحكم قرية تقع في شمال قرية الدانقيل، وتعرف هذه القرية باسم “الفريخة” إلى الآن.

وتعرف مدينة بربر كذلك باسم المخيرف أو مخيرف النور (35 ، 212)(1) ويقال إن النور هذا كان رجلاً يرعى غنمه في فصل الخريف في تلك الجهة.

كانت بربر نقطة التقاء جميع القوافل التي كانت تأتي من شمال وادي النيل

(1) الأرقام بين الأقواس تشير إلى الرباعيات

 وجنوبه، وتذهب إلى شرقه وبالعكس. وكانت نسبتها إلى سواكن ميناء السودان القديم كنسبة عطبرة إلى ميناء بورت سودان اليوم.

وكان يبدأ منها طريق ينتهي في سواكن (149 إلى 156) وآخر في كسلا (157 إلى 175) وثالث في كورسكو بمصر. وكانت تعج بأفواج المسافرين من السودان وإليه ولا سيما في موسم الحج.

ازدادت شهرة بربر في عهد حكومة الأتراك وازدهرت تجارتها وتضاعف عدد سكانها. وكان سوقها عظيماً واسع التجارة، وكان كل أثريائه من الأجانب، كالأرمن والهنود والمصريين واليونانيين وغيرهم. وكان التاجر منهم يختص ببيع صنف واحد من البضاعة، فتاجر الأقمشة مثلا، لا يبيع الخردوات، وتاجر الخردوات لا يبيع العطور وهكذا.

وقد اتخذ الأتراك منها عاصمة للمديرية ومقراً لقيادة فرقة من الجيش ومن آثار تلك الفرقة العسكرية إلى يومنا هذا أطلال من قلعتين حربيتين وخندق يحيط بالمدينة من جميع الجهات إلا من جهة الغرب حيث نهر النيل. وقد تعاقب على بربر كثير من الحكام المصريين والأتراك منهم محمد بك حلمي ابراهيم الذي كان سبباً في وجود عائلة الفراش ببربر.

وكان ببربر مستشفى ومكتب للبريد والبرق ومدرسة نظامية، وشركتان إحداهما لصنع الملابس والأخرى لعمل السكر، وقد جاءت الحكومة بعدد من العمال المصريين لتدريب المواطنين على شتى المهن في أماكن متفرقة من المدينة.

وفي شعر ابراهيم ود الفراش صور مجملة أحيانا ومفصلة أحيانا أخرى لطبقات المجتمع في بربر آنذاك. وفيه كذلك، وصف للمدينة نفسها من حيث العمران والحضارة. ومما لا شك فيه أن شاعريته قد تأثرت كثيراً بتلك البيئة.

كانت مدينة بربر عظيمة آهلة بالسكان، وطبقات المجتمع فيها على جانب من الرقي. فهنالك طبقة الأثرياء ووجودها يستلزم وجود الدور الباهية ذات القصور (1 ، 8 ، 111) والحدائق الغناء (26 ، 38) والأثاث والرياش والخدم والحشم (178) ويقتضي وجودها، أيضاً، وجود طبقات أخرى لها علاقة بحياة هذه الطبقة، كتجار الأقمشة الجميلة (34 ، 39 ، 109) والمجوهرات والذهب (42 ، 46 ، 110) والعطور (44 ، 45) وأصحاب الحانات والمغنين والراقصات (47 ، 48) وغيرهم ممن تكمل بهم أسباب الترف والنعيم لهذه الفئة الغنية.

وكما كانت توجد طبقة من الأثرياء كانت توجد ، كذلك، طبقة متدينة، يشهد بذلك ذكر ود الفراش للمئذنة، التي كانت تطل على جزيرة بربر (34) والتي كانت لجامع الحكومة الرسمي حيث تقام الصلاة وتلقى الدروس الدينية. وهذه الطبقة ذات فروع كثيرة، منها العلماء وطلاب العلم والأولياء والصالحون والعباد والزهاد وغيرهم، من الذين ينتمون إلى هذه الفئة والذين ذكر الشاعر بعضاً منهم (49).

وفي ذكر جزيرة بربر (34) المشهورة المترامية الأطراف، والتي كانت وما تزال من أهم أسباب الرزق لأهل المدينة، إشارة إلى وجود طبقة الزراع، التي يستلزم وجودها وجود طبقات أخرى من أصحاب المهن التي لها علاقة بهذه الطبقة.

ووجود كل هذه الطبقات وحمايتها والنظر في شئونها المختلفة والفصل في قضاياها يستلزم وجود الطبقة الحاكمة بجميع فروعها (209).

إبراهيم الفراش

 

حياته:

هو ابراهيم بن محمد بن ابراهيم بن أحمد بن موسى الذي يتصل نسبه برجل من الأولياء يقال له عبد السلام الباز وينتهي هذا الباز إلى السيد أحمد الرفاعي القطب الشهير المقبور بالربع الخراب بالعراق. و(الفراش) لقب عرفت به أسرته في مصر.

هاجر والده من مدينة بلبيس، من أعمال مديرية الشرقية بمصر إلى بربر بالسودان بإيعاز من والديه، وقد كان وحيدهما، خوفاً على حياته من التجنيد الإجباري، وكان يحمل معه رسالة من الشيخ عليش العالم المالكي المشهور، إلى محمد بك حلمي ابراهيم مدير مديرية بربر آنذاك، يوصيه فيها بمساعدته وإكرامه. وعمل المدير بما جاء في الرسالة وزاد عليها حتى صار لا يفرق بينه وبين أبنائه في المعاملة، حتى ظن الناس أنه من عشيرته. ثم اتخذه المدير ناظراً على خاصته لما عرف فيه من الصدق والأمانة فقام محمد بأعباء هذا العمل خير قيام حتى ألقى إليه المدير مقاليد الأمور في كل ما يمتلكه.

أما أمه فهى محبوبة بنت محمد فضل، ابنة أحد أثرياء تجار المدينة الذين هاجروا من مصر إلى بربر، وقد تزوجها والد شاعرنا بموافقة محمد بك حلمي.

وكان مولد شاعرنا في عام 1847 وكان له من الإخوة ثلاث هم: أحمد وفاطمة وزينب.

وكانت أسرة شاعرنا تحتل مكانة مرموقة في بربر، فقد كان والده مثقفاً ثقافة دينية إذ أنه كان طالباً بالأزهر الشريف قبل هجرته إلى السودان.

كما أنه كان معروفاً بالورع والاستقامة فقد قضى فريضة الحج قبل أن يتخذه المدير ناظراً. وكان معروفاً، كذلك، بالدأب في اكتساب عيشه. وكانت له ثروة كبيرة (2).

التحق ابراهيم في أول صباه بالخلوة لحفظ القرآن الكريم، ومكث فيها زمناً ثم تركها (192). وألحقه أبوه بعد ذلك بالمدرسة النظامية وكان يريد بعد إتمامه هذه المدرسة أن يرسله إلى الأزهر الشريف لينهل من علومه ولكن لم يوفق في ذلك.

كان شاعرنا مولعاً منذ طفولته بركوب الخيل والإبل وألعاب الفروسسيسة كلعبة الزريق وهى عبارة عن تراشق الصبيان بعضهم بعضاً بجريد النخل كتراشق الفرسان بالرماح في ساحة الحرب. وكان يترك درسه ويذهب إلى حيث يتدرب جنود الجيش التركي على أعمال القتال ويقضي معظم وقته وهو ينظر إليهم وهم يرمون بالنار إلى الهدف ويتدربون على خطط الهجوم والدفاع، فشب مولعاً بالجندية شديد الرغبة فيها.

ولما بلغ الرابعة عشر التحق جندياً بالجيش التركي من غير مشورة والده وحاول والده أن يصده عن عزمه فلم يفلح.

قضى ابراهيم الفراش نحو عشرين عاماً متردداً بين البدو والحضر وكانت مهنته توجب عليه ذلك لأنه كان يعمل كثيراً مع السلطة المدنية مندوباً من الجيش، وكان موكولاً إليه جمع ضرائب القطعان من قبائل البجة، وكان يوزع المراسيم الحكومية على مشائخها، ومكنه هذا من معرفة البجة قبيلة قبيلة، ومعرفـة طبائعها وعاداتها ومسالك البيداء الموصلة إلى كل قبيلة منها، كما مكنه من إجادة الكلام بلغتهم حتى قيل في ذلك أنه كان بجاوياً هرب في صباه وتربى بين قبائل النيل (133 – 136).

وكان يعمل في بعض الأحيان كدليل للحكام الأتراك إذا سافر أحدهم إلى تلك الجهة، كما كان ينتدب لإلقاء القبض على المتمردين على الحكومة من أهل البادية، وعلى اللصوص (الهمباتة) الذين ينهبون الإبل من أهلها، وإلى القبض على القتلة أحياناً (193).

 واشترك ابراهيم كذلك في عدة حروبات، نذكرمنها حرب السلطان هارون في دارفور (195 الى 201)

وظل يتنقل في الجيش من رتبة إلى رتبة حتى وصل إلى رتبة السنجك- (ضابط تحت قيادته خمسمائة جندي) – ولكن قبل أن يصل مرسوم رسمي بذلك (184) وشى به أحد قضاة بربر المشهورين في ذلك العهد لأسباب نجهلها، مما جعل إدارة الجيش تنقله إلى الأماكن البعيدة (185). ورأى ابراهيم بعد ذلك ألا فائدة في خدمة العسكرية فطلب إبعاده منها وتم له ما أراد مع مكافأة مالية وبدأ يمارس العمل الحر.

وفي أواخر حياته ندم على ما فرط منه في أيام جدة الشباب، ورجع إلى ربه تائباً مشهداً بعض الناس على توبته. وصار يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ومدحه بقصيدة ضاعت كلها –مع الأسف– إلا مطلعها الذي يقول فيه:

يارب صل على النبي وآله

عدد الجبال والرمال وسهلها

وبينما كان كذلك فاجأته الحمى الملاريا وكانت شديدة الوطأة فلم تمهله إلا قليلا وأودت بحياته في عام 1883 على وجه التقريب. وكان لنعيه رنة حزن عميق في جميع أنحاء بربر. ودفن ، طيب الله ثراه، بمقبرة الشيخ الحباني، وهو عالم مصر، مقبور بمدينة بربر القديمة، ويقع قبره على ربوة في شرق قبة الولي الشيخ زين العابدين الكنتي.

صفاته وأخلاقه:

كان رحمه الله جميلاً جمال الرجولة، حتى قيل أنه إذا مر بالطريق تنظر النساء إليه من ثقوب الأبواب، وكان أبيض اللون فارع القامة بادن الجسم قوي العضلات.

وكان ذكياً حلو الحديث طيب المعشر بين إخوانه وكل من كان يعرفه. وكان ذا مروءة فهو يقيل عثرة الصديق ويحله من كربه ويكون له بمنزلة الفرح للإخوان عندما تلم بهم ضائقة (210) ومن صفاته كذلك التودد والمداراة والتريث في الأمور (68). وكان رحمه الله معتزاً بجماله وشجاعته مغروراً بشبابه (214 إلى 217).

وكان من أبرز صفاته الشجاعة والكرم وهما كما يقال متلازمان (212-218-219)، وفي شعره ما يؤكد أنه كان متحلياً بالشجاعة والخوف من العار وشماتة الأعداء والأقارب والحذر من استياء الأحباب (51 ، 103).

وكان الشاعر يتجاوز أحياناً حدود الشجاعة إلى درجة التهور، فيقع في محظور إلقاء المرء بنفسه إلى التهلكة (77 – 192). وكان لتهوره واستهتاره بالحياة سببان، هما شدة ولعه بوصال الأحبة (78)، وإيمانه العميق بأن الأجل إذا انتهى لا يتقدم صاحبه ولا يتأخر (192).

وتتجلى شجاعته أيضاً في تحمله للخمسمائة جلدة التي ألهب بها الجلاد ظهره

عقاباً فلم يحرك ساكناً، مع أنه أشرف على الهلاك، في وقت كان الأثرياء يرشون ضارب السياط ليخفف الجلد عن ذويهم ويزوِّر في عدده (189). وفي هذا قيل إن أحد الفقراء، وقد جيء به محكوماً عليه بالجلد عرض بطنه بدلاً من ظهره قائلاً: (العِنْدُه ضهر ما بنضرب على بطنه) فصارت قولته مثلاً.

 ويدل اشتراكه في قتال السلطان هارون في دارفور (194 إلى 201) وثباته للذين يهاجمونه في البيداء وغلبته لهم (207 – 208) على شجاعته أيضاً. وكان رحمه الله معتزاً بشجاعته ويمدح نفسه بها (213 إلى 217).

وهو إلى جانب ذلك عفيف مأمون على بنات الحى. وما تزال نساء المديرية الشمالية يقلن إذا عثرت قدم إحداهن: (أنا أخت الما بخون جارته) (211)

 حبه:

اتسع قلب ابراهيم الفراش إيواء كل حسناء فهو موزع الحب كثير الأحبة، ونراه يذكر في شعره أسماء أحبائه مرة (86 إلى 88) ويعرض عن ذلك مرة أخرى.

ويحدثنا شاعرنا أنه وصل حبه إلى درجة يكاد يخرج فيها المرء عن طاقته، وأنه كلما تذكر المحبوب امتطى بعيره قاصداً، وأنه كان يشرف على حائط المنزل ليراه ويكاد يتسلق السور ليستقر عنده، ولكنه مع ذلك كان يراجع نفسه ويجلس على الأرض يخط بأصبعه عليها علامة على الندم (68).

ونراه حيناً يندفع مع تيار الحب والشباب، فلا يتورع أن يحوم في حبه حول الحمى (62)، وهو قوي شجاع في حبه غير زاهد فيه (111)، كما أنه عفيف فيه (56).

ومع أن قلبه اتسع لإيواء كل حسناء إلا أنه كان يتعلق بوجه خاص بفتاة تسكن الدامر، وتدعى (الدُّون لِحِقْ).

والدون جارية مملوكة لأحد أسر الجعليين العريقة في الدين والشرف والجاه، وكانت على جانب عظيم من الجمال لا سيما قوامها البادن ولونها الأسمر، وكانت حسنة الألفاظ ساحرة اللفظ جذابة للقلوب (1 إلى 27)

لم يذكر لنا الرواة نسبها من جهة أبيها، ولكن شاعرنا ود الفراش يخبرنا بنسبها من جهة أمها أنها كانت تسمى نوره (1) وأن والد نورة يدعى قنديل (3).

قيل إن الشاعر رأى هذه الجارية ترقص في حفل عرس، فنفذ سهم حبها في قلبه من أول نظرة، فلم يتمالك نفسه وبرز في ساحة الحفل وأبدى طريقة الإعجاب المعهودة في ذلك  العهد وإلى اليوم – في بعض المناطق – وهى (البطان) وتجريح الساعد بالمدية.

تعلقت هى أيضاً بشراك حبه، ثم كان بعد ذلك التعارف وتبادل الهدايا وتغير مجرى حياة هذه الجارية منذ عرفانها به، وظهر عليها أثر النعيم وصارت تتزين بما لم يكن عند سيداتها، وكادت تشق عصا الطاعة عليهن عندما علمت منه بعزمه على الزواج منها.

لقي الشاعر معارضة شديدة من والديه وذويه، إذ أنها دونه في المكانة، وعنده مثلها في منزل والديه (178). وزوجوه من فتاة يقال لها زينب بنت محمد بن أحمد الملقب بالدرق، وهو من المهاجرين الذين استوطنوا مدينة بربر.

لم يوفق الشاعر في زواجه من هذه الفتاة وطلقها بعد مضي عام، وكان يتحين الفرص للاقتراب بالدون. وكان إذا نصحـه أهله أن يخفف من غلوائـه في حبها أو يسلو عنها بعض الشيء أبى ذلك عليهم وزاده نصحهم له هياماً بها  وتذكاراً لها (8).

واستمر هذا الهيام إلى أن غاب مرة مدة طويلة في عمله الحكومي بعيداً عنها، فعلق بها شاب آخر وعلقت هى الأخرى به، فطار هذا الخبر إلى الشاعر الذي رفع منزلتها بشعره فوق الحرائر، حتى تغنت بذكره الركبان فجزاها غدراً بغدر وهجراناً بهجران، وهجاها شعراً بعد حب دام زمناً طويلاً (28 إلى 33).

 شعره:

ورث إبراهيم الشعر، إن كان الشعر يورث، عن والدته محبوبة، كما ورثه عنها أبناؤها الآخرون وأحفادهم. فقد كانت محبوبة امرأة شاعرة فصيحة اللسان وقد ذهب شعرها كله مع الأيام. وقيل إن كلامها العادي يكاد يكون شعراً، ولم تمر عليها مناسبة في الكلام الا واستشهدت فيها ببيت من الشعر الشعبي، أو مثل سائر أو حكمة مأثورة.

وتروى في شاعرية هذه العائلة رواية فحواها أن جدتهم، في ليلة القدر، أرادت أن تسأل الله فيها الغِنى (بكسر الغين) إلى جنى الجنى فزل لسانها وقالت الغُنا (بضم الغين).

وأول ما نلاحظه في شعر إبراهيم الفراش على الإجمال، إطلاق النفس على السجية، وعدم التكلف في اللفظ، ودقة الوصف، وجذالة المعنى، وقوة الأسلوب، وتماسك البيت، وغريب المعاني التي لم يسبقه إليها شاعر شعبي.

وكان – رحمه الله – معجباً بشعر ود محلق عاشق تاجوج، مجارياً له في بعض المعاني (93).

ولعله أول شاعر يصف الشلخ بالشباك المحكر في قصر (1)، ويصف

الخدود السمراء بكبد الحملان (25)، كما يصف الخدود الممتلئة شباباً ونضارة بثمار العناب (26).

وأكثر شعره في النسيب ووصف الإبل، ويندر أن نجد له بيتاً يخلو من مدح حسناء أو وصف لجمل كريم، وهما في عصره متلازمان لأن الجمل كان الوسيلة الوحيدة لوصال المحبوب البعيد (138). ولا يكتفي ود الفراش بوصف جمله بحيوانات الأرض في السرعة، بل يصفه بطائر القطا والصقر (139 – 140 – 145). كما يصف أرجل جمله في سرعة حركتها بعجلة ماكينة الخياطة (145) ويقول إن معظم كرائم الإبل تتقاصر عن السير مع جمله الذي يدعى الحار حار (148).

وكان، رحمه الله، بجانب واجبه الحكومي الخطر في البادية، يقوم بواجب الحب العنيد، وينظر إلى محاسن البادية بعين العاشق البصيرة إلى أسرار الجمال. وبكثرة تردده عليها ومعاشرته لأهلها تأثرت بالحضر وبيئاتهم فجاء شعره مزيجاً من الاثنين معاً وتغلب عليه نزعة البيداء. وفي شعره ما يدل على أنه كان بدوياً صرفاً (91 – 92 – 129 إلى 132).

وكان شاعرنا يجيد لغة البجة، كما قلنا، ونظم الرباعيات ينتهي البيت الرابع في كل منها بهذه اللغة (133 إلى 136). ولعل في هذا ابتكاراً سبق به غيره من الشعراء.

 

انظر ديوان ود الفراش: هنا