النوريق:
أحمد إبراهيم أبوشوك
يُقصد بالنوريق درس القمح أو البقوليات الأخرى عن طريق الحمير أو الأبقار أو النورج. وأصل كلمة نوريق نوبي، وقد أرجع أصلها عماد الدين (أحد المتداخلين) إلى كلمة “نوري”، ولكنها عُربت عند القبائل المستعربة، وأضحت تنطق بزيادة الألف واللام في بداية الكلمة والقاف في نهايتها (النوريق). وتبدأ عملية النوريق بعد تسوية الأرض ورشَّها بالماء وتدكيكها في شكل دائرة أم مربع، تُعرف الأرض المدككة بالتَقاة. تُوضع على التقاة سنابل القمح أو سيقان البقوليات الأخرى. ويتم بعد ذلك جلب عدد من حمير القرية إلى التقاة، وتوضع الحمير السريعة في أطراف التقاة الخارجية والحمير البطيئة في محيطها الداخلي. وتُربط الحمير من رقابها في عود مغروسٍ في وسط التقاة، يعرف بعود النوريق. وبعد ذلك تبدأ الحمير الحركة في شكل دائري داخل التقاة؛ لتدرس سنابل القمح بأرجلها، ويتحرك أحد الصبية أو مجموعة منهم خلفها ويحثونها على الحركة، وبين الحين والآخر يلتقطوا ما تبرزه من روث على أرض التقاة. وفي فترة لاحقة، أُدخلت آلة النورج، وهي مكونة من ألواح خشبية تتوسطها عجلات مسننة تشبه التروس، وبها معقد يجلس المزارع أو أحد العاملين معه، وتجر هذه الآلة دابة أو دابتان، عن طريق حركة التروس التي تفصل الحبوب عن سنابل القمح.
وبعد الفراغ من عملية النوريق سواء كانت بالحمير أو النورج، يأتي دور النساء لفصل البذور من سنابلها المدروسة (التبن أو البُتاب) بطريقة تُعرف بالتضرية (التذرية)، أي وضع البذور المخلوطة بالتبن في طبق من سعف الدوم، ثم عرضه إلى الهواء، الذي يساعد في أبعاد التبن من الحبوب. وبعد الانتهاء من عملية الفرز والنظافة، تتم تعبئة البذور في جوالات، أو توضع من مطامير في محفورة في الأرض، أو قسيبات (مفردها قسيبه) كبيرة، مبنية من الطين في أشكال أسطواني، تُشبه البراميل.
في المرحلة الأخيرة، تأتي عملية الدوليق، أي جمع البذور المتناثرة في التقاة وما حولها، ثم رعي الغنم في التقاة، “وحتى الطير يجيها جيعان *** ومن أطراف تقيها شبع”، كما قال الشاعر إسماعيل حسن؛ لكن لا تترك الطيور العابرة تسرح وتمرح كما يشاء، بل ينصب الصبية شراكهم (جمع شرك) لصيد القمري، والدباس، والقطا. وبهذه الكيفية نلاحظ أن جميع أهل القرية باختلاف أعمارهم وأجناسهم يشتركون في عملية النوريق والمراحل اللاحقة لها في شكل تكافلي فريد. لكن هذه العملية اندثرت منذ فترة طويلة، ولا تعرف الأجيال الناشئة عنها شيئاً.
الصورة أدناه حصلتُ عليها من جامعة درم (أرشيف السودان الرقم: SAD.879/3/2) عام 2011م، تم التقاطها من كورتي عام 1934.