حفريات لغوية – الألفاظ التركية والإفرنجية في اللهجة السودانية .. بقلم: عبد المنعم عجب الفيا

نشر بتاريخ: 24 تشرين2/نوفمبر 2011

الاستلاف المتبادل بين اللغات قديم قدم البشرية وقد تنبه علماء العربية باكرا إلى استلاف لغتهم من اللغات الاخرى خاصة تلك التي تربطها وشائج قربى مع العربية مثل الحبشية والسريانية والنبطية والآرامية والعبرية. وفي عهد الفتوحات الاسلامية استعارت العربية كثيرا من المفردات من الفارسية حتى ان كثيرا من الالفاظ التي يظن الآن انها عربية هي في الواقع معربة عن الفارسية. وكانت لغة القرآن الكريم قد تضمنت مفردات من جميع هذه اللغات المذكورة (انظر فقه اللغة للثعالبي والمُعرّب من الكلام الأعجمي للجواليقي والغريب المصنف لابي عبيدة والمزهر للسيوطي).
ولكن ليس هذا هو موضوع بحثنا الان، وانما الغرض هنا أن نعطي أمثلة لبعض الالفاظ التي استقرت في كلامنا من لغات الترك والافرنج الاوربيين: الانجليز والفرنسيس والطليان. والإفرنج أوالفرنجة ذات أصل أوربي قديم لكن لا أدري تحديدا من أي لغة أوربية انحدرت. ونحن نقول أفرنجي وعفرنجي، ونطق الهمزة عينا في بعض الكلمات معروف في كلامنا كقولنا سعال في سؤال وقول بعضنا عضان في أضان وعناف في أنف. وقد اشتهرت قديما قبيلة بني تميم العربية بنطق الهمزة في بعض الكلمات عينا حتى قيل: عنعنة تميم. كانوا يقولون مثلا : أشهد عنك رسول الله أي أنك.
نبدأ بالوقوف عند بعض الالفاظ التي دخلت من التركية إلى اللغة العربية السودانية. فقد حكم الترك السودان لنحو ستين سنة ونيف ( 1821- 1885). وخلال هذه الفترة تسربت إلى لهجتنا عدد من المفردات التركية خاصة الادارية والعسكرية منها وبعض أنواع الاطعمة والادوات. وجدير بالذكر أن بعض هذه المفردات التركية ذات أصل فارسي. ويبدو ان تاريخ الكلمات الفارسية في اللهجة السودانية أقدم من تاريخ حكم الترك للسودان. وأبرز كلمة تدل على ذلك كلمة ” دو بيت” فالمقطع الاول من الكلمة” دو” فارسي الاصل ويعني اثنيين.
كل لفظ يبدأ أو ينتهي بالمقطع “باش” فهو تركي مثل: باشكاتب ويوزباشي وامباشي وبكباشي وحكيمباشي وباشمهندس (هندسة فارسية الأصل) وغيرها. وباش أو باشا معناها: كبير أو رئيس. فالباشكاتب هو كبير أو رئيس الكتبة. والحكيمباشا، مدير الشفخانة أو المستشفى وهكذا. وكل لفظ ينتهي بالمقطع “خانة” ذو أصل تركي أو فارسي مثل: شفخانة واجزخانة وادبخانة. وخانة تعني محل أو مكان.
وكذلك الالفاظ التي تنتهي بالمقطع ” دار” مثل: حكمدار وبيرقدار ودفتردار وسردار وغيرها. ويذهب جورجي زيدان وعون الشريف إلى أن المقطع “جي” الذي تنتهي به بعض الكلمات مثل: تمرجي وأونطجي تركي الأصل. وقد وظفت اللهجة السودانية المقطع “جي” حتى في الكلمات التي لم تنحدر من أصل تركي مثل: مكوجي ومخزنجي وعربجي وخدرجي ولعبنجي وسكرجي وغيرها.
هذا إلى جانب بعض المفردات الاخرى مثل: عفارم ودغري وأوضة وأفندي وبرضو ودشمان وكهرباء والتي يقول جورجي زيدان إنها فارسية مكونة من “كاه” التبن و”ربا” جاذب. وكذلك سراي أو سرايا بمعنى قصر. كان يقال سرايا الحاكم العام. وكذلك أورطة وتعنى جيش واورنيك وطابور. وكذلك كلمة سنجك وبُلك وآلاي التي تعني حسب جورجي زيدان على التوالي: راية وسرب وفرقة. كان يقال مثلا الاميرلاي فلان أي قائد الفرقة ولا أدرى ماذا تقابل الان في المصطلحات العسكرية العربية المستحدثة.
وظلت كل هذه المفردات والمصطلحات ذات الاصل الفارسي التركي مستخدمة في السودان حتى بعد هزيمة الترك وطردهم من السودان على يد الثورة المهدية في 1885 وظلت في الاستعمال طيلة الحكم الانجليزي واستمر استخدامها إلى ما بعد جلاء الانجليز عن السودان في 1956. إلا ان بعض هذه الكلمات قد بدأت في الاختفاء بتاثير من المد القومي العروبي وتغليب الاتجاه الداعي إلى توحيد المصطلحات العسكرية والمدنية في البلدان العربية في أول عهد حكم النميري للسودان وترسخ هذا الاتجاه أكثر بعد صعود الحركة الاسلامية إلى سدة الحكم فيما عُرف بالتاصيل.
ولكن ظلت الالفاظ ذات الطبيعة العامة مثل دوغري وبرضو وأوضة وتلك التي تنتهي بـ”جي” وطابور واورنيك واجزخانة وادبخانة في الاستعمال إلى ان اختفت اجزخانة وحلت محلها صيدلية وأختفت أو كادت ادبخانة وحل محلها “حمام”. وأذكر كان الناس إلى أيام طفولتنا في منطقتنا ( شمال شرق كردفان) يقولون كنيف ومُستراح وهي كلمات عربية قديمة وأقوى في الدلالة على معنى “حمام” بمصطلح اليوم الملتبس مع دلالته الأصلية.
وكان سيكون ملائما لو استمرت بعض هذه الالفاظ التركية في الاستعمال مثل حكيمباشا وشفخانة واجزخانة. وذلك لان الكلمات مهما كان مصدرها ليست مجرد كلمات وانما هي ذاكرة أمة ومستودع تاريخها وينبغى أن يخضع بقاؤها أو انقراضها للانتخاب الطبيعي لا للاقصاء الايديلوجي.
فالحكيم في اللهجة السودانية هو الطبيب وهي كلمة عربية قديمة في هذا المعنى. وكان الناس عندنا إلى عهد قريب يقولون حكيم وذلك قبل أن تسود كلمة دكتورالتي سادت بديلا عنها الان كلمة طبيب بفعل دعاوى (التأصيل). وللدلالة على تغلغل كلمة حكيم في وجدان الناس آنذاك، كانت أول قصة قصيرة تنشرها في الخمسينات من القرن الماضي، إمراة سودانية، وهي ملكة الدار محـمد، تحمل اسـم (حكيم القرية) اي طبيب. ولا يزال الناس في صعيد مصر وبلاد الشام يقولون حكيم للطبيب.
أما اجزخانة فلا أرى مبررا لاستبدالها بصيدلية لولا الاذعان لتوجهات توحيد المصطلحات في البلدان العربية والتي لا أرى لها مسوغا سوى التضييق على الناس والحد من سعة اللغة والتنوع والتعدد اللغوي والثقافي. فالخصوصية الثقافية واللغوية ،عامل ثراء للغة والثقافة مثلما كان اختلاف وتعدد لغات/ لهجات العرب في الماضي عامل ثراء لهذه اللغة. وذلك على غير ما يتوهم أصحاب هذه الدعاوى والتوجهات. فضلا على أن كلمة صيدلية أعجمية ولا يميزها عن اجزخانة سوى سبقها التاريخي في الاستعمال.
وإذا انتقلنا إلى الالفاظ الإفرنجية المعربة سوف نقصر حديثنا فقط على الالفاظ العامة التي يستعملها سائر الناس في كلامهم وتمس حياتهم اليومية بمختلف مناحي أنشطتهم ونترك جانبا المصطلحات العلمية و الالفاظ التي تخص حقول مهنية أو معرفية بعينها لانها أكثر من أن تحصى أو أن يُمثل لها. ومن ذلك :
بوستة، استبالية أو اسبتالية، برندة ، ميز، بودرة، موضة، بنـك، شيـك، كـمبيالة (إيطالية) فاتورة (إيطالية)، سكرتير، تلغراف، تيلفون، ميكرفون، تيلفزيون، رادي، برنامج، سينما، بابور، مكنة، ورشة workshop وقراش، بطارية، صلصة، باسطة، ساندوش، جرسون (فرنسية)، ديموقراطية، برلمان، دبلوماسي، قنصل (فرنسية)، بوليس، كمندان (فرنسية)، قومسيون، كبون، أزمة (مرض ضيق التنفس) كمبيوتر، موبايل. ويمكن أن يسوق القاريء عشرات الامثلة الاخرى.
وقد اختفت بعض هذه الكلمات المعربة عن اللغات الأوربية مثل بوليس وبوستة و”أزمة” وحلت محلها كلمات أخرى بسبب الاستجابة لدعوات التاصيل وتوحيد المصطلحات في البلدان العربية. وما كان يضير هذه الدعوات والتوجهات الايديلوجية لو أبقت على كلمة بوليس مثلا إلى جانب كلمة شرطة التي يزعمون انها عربية. فهي كلمة خفيفة وسهلة النطق إلى جانب انها اصبحت جزء لا يتجزأ من ثقافة الناس وتاريخهم. وبذات القدر ننظر إلى كلمة بوستة posta بالايطالية، فليتهم تركوها إلى جانب كلمة “بريد” ولتختار كل دولة ما يناسبها، فالترادف من مميزات اللغة العربية.
أما كلمة مستشفى التي وضعتها مجمعات اللغة العربية لتقابل كلمة “اسبتالية” hospital فلا يخفى ثقلها على اللسان حيث انها تتالف من ثلاثة مقاطع تقطع النفس. ولو ترك الناس على سجيتهم لما اختاروا هذه الكلمة. لذلك اختار المجمع اللغوي في سوريا “مشفى”، اشتقوه من الأصل الثلاثي للفعل ” شفى” بعد ان جردوا الكلمة من أحرف الزيادة: السين والتاء.
وعلى ذكر المستشفى، لفت نظرنا من خلال متابعة برامج (صحة وعافية) بتلفزيون السودان، اصرار القائمين عليه والضيوف المختصيين استعمال كلمة “ربو” مرض ضيق التنفس – محل كلمة “أزمة” التي جرت على ألسنة الناس بتاثير من الكلمة الانجليزية asthma فعامة الناس عندنا يعرفون ” الازمة” ولا يعرفون “الربو” فلماذا الاصرارعلى إقصاء كلمة “أزمة” وإقحام كلمة ربو؟ فليستعمل الاخرون ربو إذا أرادوا ونستعمل نحن “أزمة”. أليس الترادف من أبرز مميزات العربية؟
خاصة – وهذه من غرائب الصدف – أن هنالك مطابقة تامة بين الأزمة كمفهوم لغوي وطبيعة المرض، فهو أزمة حقا وماذا يكون ضيق النفس إذا لم يكن أزمة في التنفس! ولذلك يراودني إحساس قوي بان الكلمة الانجليزية هي الكلمة العربية نفسها! وإن لم تكن كذلك فيكفيها بلاغة أنها تطابقت لفظا ومعنىً مع وصف المرض. وباستعمالنا لكلمة “أزمة” نكون قد رفدنا العربية بكلمة اكثر إبانة من كلمة “ربو”.
وبالرجوع إلى دور مجامع اللغة العربية نقول إنها كانت قد اخذت على عاتقها اصطناع واختراع مفردات عربية لمقابلة ما يستجد من اسماء علمية وتقنية غربية. فقد وضعت مثلا كلمة ” الخيالة” للسينما، “المرئي” للتلفزيون و” شاطر ومشطور وبينهما طازج” للساندوتش و”الحاسوب” للكومبيوتر. ولا أظن أن احدا قد جرأ على استخدام كلمتي خيالة ومرئي، ولا حتى أعضاء هذه المجامع أنفسهم. أما كومبيوتر فقد سادت الآن على كلمة حاسوب. الامر الذي جعل هذه المجامع تكف الآن عن القيام بالمهمة التي انشئت من أجلها.
لذلك حينما ظهر ” الموبايل” mobileلم تسارع المجامع اللغوية في التباري على ان تخترع له اسما مشتقا من العربية كما كانت تفعل في الماضي وتركت الامر لقوانين الحياة. فتعددت الاسماء وظهر في كل أقليم أو دولة تقريبا اسما: جوال، متحرك، خلوي، نقال، بينما اكتفى البعض باستعارة الاسم الأفرنجي “موبايل” كما هو.
وهذه التعددية اللفظية من أميز خصائص اللغة العربية التي عُرفت بالترادف وهو أداء المعنى الواحد بأكثر من لفظ. وخاصية الترادف هذه التي ميزت العربية وشكلت لها عامل ثراء، تكفى وحدها للرد على الداعيين إلى توحيد الالفاظ والمصطلحات في البلاد الناطقة بالعربية.
قيل إن إعرابيا زار مدينة الأبيض ولما أحس بالجوع توجه إلى أقرب كشك لبيع الأكل حيث وجد بعض السندوتشات. ولما كان لا يعرف كلمة ساندوتش قال لصاحب المحل : اديني من المحاشي ديل! وهكذا بسليقته استطاع ان يجترح للساندوتش اسما يطابق وصفه، وهو الأمر الذي عجز عنه أعضاء مجامع اللغة العربية. فاين “المحشي” من الشاطر والمشطور وما بينهما طازج!! فاللغة تصنعها الحياة وأفواه الناس، ولا تُفرخ في المعامل والمختبارات العلمية.

مصادر:
1- أبو منصور الثعالبي( ت 429 هـ) ، فقه اللغة، دار الكتب العلمية، بيروت.
2- الجواليقي، المُعرّب من الكلام الأعجمي، دار الكتب القاهرة، الطبعة الرابعة 2002
3- السيوطي، المزهر في علوم اللغة وآدابها، الجزء الأول، دار الفكر للطباعة والنشر.
4- جورجي زيدان، تاريخ اللغة العربية (صدر 1886) دار الحداثة، بيروت ط 1987.
5- عون الشريف قاسم، دراسات في العامية السودانية، الدار السودانية، طبعة أولى 1974.
6- The Concise Oxford Dictionary, Oxford University Press,1999

abdou alfaya [abdfaya@yahoo.com]