بقلم أسعد الطيب العباسي
تعتبر شغبة المرغمابية من الشخصيات المهمة في تاريخ أرض البطانة، ومن الشاعرات اللاتي سار الركبان والزمان بأشعارهن، وقد اكتسبت أهميتها عندما نصبت نفسها قائدة وأميرة على قومها، واستطاعت بما تملكه من قدرات أن تصبح شيخة على قبيلتها، فكان رأيها لا يعارض، وكانت تصنع القرارات وتعطي الأوامر، ولا يقطع في أمرٍ يهم القبيلة إلا بعد أن تجيزه وتقره، فقد كانت شخصية قوية ومهابة تمتلئ شجاعة وتحدياً، وتتمتع بكريزما القيادة، وهي قطعاً شخصية لم تتكرر في تاريخ السودان، فهذه القائدة التي نشأت في أرض البطانة وعاشت في منتصف القرن الثامن عشر، كانت ذات قدرات مهولة، فقد استطاعت أن تقود قبيلة المُرغماب عبر معارك طاحنة وحروب دامية، إلى انتصارات باهرة ضد أعدائها من قبائل البطاحين والشكرية، لتفوقها ودرايتها في تجهيز المحاربين والفرسان وتشجيعهم وتنظيمهم. والعجيب أن شغبة لا تنتمي أصلاً إلى قبيلة المُرغماب، إنما انحدرت من قبيلة الكواهلة فرع الشدايدة، إلا أنها اشتهرت بشغبة المرغمابية بسبب أنها كانت زوجة (لود دقلش) أحد أفراد وفرسان قبيلة المرغماب التي هي فرع من فروع قبيلة الكواهلة، وقد أحبها هذا الفارس بعمق وأحبته حباً عنيفاً، فتعلقت روحاً وجسداً بالمرغماب، واعتبرت نفسها فرداً من أفرادها، بل تسيدتهم وأخذت تفرد أشعارها لهذه القبيلة مدحاً وفخراً، وتغني لأمجادها دون سائر القبائل بما فيها القبيلة التي انحدرت منها أو قبيلة البطاحين التي تربطها بهم علاقة نسب قريبة، إذ إن شقيقتها (علابة) كانت متزوجة من أحد أفراد قبيلة البطاحين، وأثمرت زيجتها عن ابن هو (الشيخ برير) الذي أضحى من أشهر شجعان القبيلة وقائد لفرسانها، وللشيخ برير هذا سيرة مهمة في هذا المقال، فقد شاءت الأقدار أن يكون قائداً لفرسان قبيلة البطاحين في معركة دامية ضد قبيلة المرغماب، رغم أن خالته شغبة كانت تقود في الجانب الآخر قبيلة المرغماب، واستطاع الشيخ برير أن ينزل بهم في صباح باكر هزيمة بشعة قتل فيها أشجع فرسانهم، ونهب أموالهم وسلب إبلهم. وفي هذه المعركة أصيب نائل ابن شغبة بطعنة نافذة فسقط فوراً على الأرض ميتاً، ولم يلبث أن هجمت الكلاب على جثته تنهشها نهشاً وأمه شغبة تنظر إليه، غير أنها اختبأت في تلك اللحظات من أساها وحزنها خلف مهمتها القيادية والتشجيعية، فأخذت تحث فرسان قبيلتها على المزيد من الصمود والقتال، وعندما حانت منها التفاتة رأت ما لا تحب أن تراه أبداً، رأت زوجها الفارس (ود دقلش) وهو يقاوم السقوط من فوق صهوة فرسه وهو مثخن بالجراح، فسقط من علوه مضرجاً بدمائه، وسرعان ما أسلم الروح، فغلبها الأسى وسيطر عليها الحزن، ولكنها ظلت تحاول إبقاء رباطة جأشها وهي تقول:
كُـرْ يَا نَـوحْ مِـنْ دَا الخَـــرَابْ1
عَجَـبْ عَـيني ياكـلَنْ فِي الكِـلاَبْ
ود دَقْـلَشْ مَـيَّحْ مِــنْ الرِكَـابْ 2
أَخير دِي مِن قَولةْ جَفلوا المُرغُمَابْ
وكان لوقائع هذه المعركة آثار لا تمحى في نفس شغبة، خاصة أنها فقدت أميز فرسانها كالفارس (ود نواي) وبينما كان قلبها يملأه الأسى إلا أن وجهها كان وضاحاً وأن ثغرها كان باسماً عندما تمر بها الأبطال كلمى حزينة. وسرعان ما تحمل همها وأساها بين جنبيها وتمتطي صهوة جوادها، فتسرجه صوب مورد المياه المسمى “عديد نوير” لتشكو إليه فقدان الفوارس وبقاء الجبناء، وتقول له إن ود دقلش الذي فقدنا كان كريماً معطاءً، وأن فقد ود نواي كان مفجعاً وأليما، فكيف يكون حالك بعد يا أيها المورد، وقد مات حراسك وفقدت حماتك، وكيف يكون حالي أنا من بعدهم، وهذه النوق الحلوب تتبعني إليك، وذلك من خلال دوبيت خماسي تقول فيه:
يِقِّـنْ ليْ خَـرابَكْ يَـا عِـدَيْد نِوَيـرْ
رَاحَوا النَايرينْ وفِضْلُوا البِمَاسحُو الكَيلْ 3
وَدْ دقـلشْ يِكَّـفِي لـيْ هَـوايدَ اللَيلْ
وَدْ نَوَّايْ كِتِلْ فَـارْسَ التقِيلَه أمْ حَـيلْ
شَغَـبَه وَيـنْ تَقَـبِّلْ بيْ كَبِيرةَ الضَّيلْ4
غير أن شغبة لا تستسلم لأحزانها وآلامها أبداً، فقلبها المجروح وكرامتها المسلوبة خلفا فيها روحاً تتوق للثأر والانتقام، فأخذت تجعل من أشعارها نيراناً تلهب بها مشاعر رجال القبيلة، إلى أن برز من بينهم فارس جعل العزة عنواناً له، إنه الفارس (حمد المليحابي) الذي كان قلبه يمتلئ بألم عظيم، وأحاسيسه تثقلها مرارات كثيفة كلما تذكر تلك الهزيمة المفجعة، لذا كان فوري الاستجابة وشغبة ترسله إلى وادٍ يسمى “الباك” حيث مضارب قبيلة “الأمرار” ليستنفرها، باعتبارها قبيلة صديقة للمرغماب وتربطها بهم علائق الرحم والمودة، ليعود منهم بالفرسان الأشداء الأقوياء لحرب البطاحين ورد الكرامة، فشد حمد المليحابي رحله صوب ذاك الوادي، وبقي هناك نحواً من العامين عاكفاً على المهمة التي كلف بها، إلى أن اكتمل بين يديه من شبان الأمرار سبعة آلاف فارس تخيرهم من بين الأقوياء الذين يتعاطون التمباك، فالزعم أن من يتعاطى التمباك يكون أشد ضراوة في القتال ممن لا يتعاطاه، ثم حشد حمد هذا الجيش العرمرم وانضم به إلى فرسان قبيلة المرغماب، استعداداً لحرب البطاحين التي استعدت بدورها للمواجهة بفرسان من فروع عديدة كـ (العركشاب)، وكان معهم (العساف) و(العبادلة) و(العلاماب). وعندما هم جيش المرغماب المسنود بفرسان الأمرار بالتحرك نحو ميدان القتال تحت قيادة الفارس حمد المليحابي، نادته شغبة وأسرت في أذنه بعبارات آمرة تقول: لا تقتل الشيخ برير، أريدك أن تأتيني به حياً فهو حريٌ بأن يكون بطلاً لاحتفائي به، سانظم له احتفاءً لن يسره أبداً، سأعد له فيه نوعاً من الانتقام سيخلده التاريخ، ويقذف في قلوب أعدائنا كل أعدائنا خوفاً وفزعاً ووجلاً، سر وعين الله ترعاك يا فارس الفرسان، أقول لك لا تقتله لا تقتله عد لي به أسيراً ذليلاً أفهمت؟. ومن بعد تحرك الجيش بقلوب من نار وبصدور يملؤها الغل وبسواعد لا تعرف غير البتر والقطع والطعن. وعلى الصعيد الآخر كانت البطاحين ومن تحالف معها يأملون في دحر هذا الجيش، كيف ولا وهم أبطال وشجعان أيضاً، بيد أن الهزيمة كانت من نصيبهم، فقد استطاع حمد المليحابي بدوافعه القوية وقوة جيشه، أن يلحق بهم هزيمة نكراء. وعاد منهم بكل ما استطاع أن يحمله من أموال وغنائم ترافقت مع ما قاده من إبلهم وماشيتهم، وتصيد الشيخ برير وأسره بناءً على رغبة شغبة التي ما أن رأت جيشها تحفه بشارات النصر، ويحمل رايات العزة والكرامة، وفي معيته الشيخ برير أسيراً يرزح تحت وطأة قيوده وأغلاله، تهللت أساريرها وأخذت تقول:
حَمـدْ المليحَـابي سَــدَرْ للبَـاكْ
وسَنتيْن بِدُولِب في البِشرَبُوا التُمبَاكْ
كَتلْ الشيخْ بِريرْ وحَرقْ حَشا الدعَاكْ
وجَـاب الفي الصَفيه رقهِّـن بِترَاكْ
ولم تنتظر شغبة طويلاً حتى تنفذ انتقامها ضد ابن أختها الشيخ برير، وبحق كان انتقامها من قاتل ابنها وزوجها، انتقاماً قاسياً ورهيباً وفريداً، إذ قامت بإيثاقه من خِلاف مثبتاً وجاثياً، ثم أمرت بإحضار النقارة لتتوسط الساحة بجانب أسيرها الذي تقدمت نحوه وتفرست في وجهه ملياً، ثم أخذت تدور وتلف من حوله ومن خلفه، وهي تحمل في يدها مدية حادة وكبيرة تنعكس أشعة الشمس منها على وجه الأسير الذي بدا صامتاً وصامداً، وهو يعلم أن وفاته ستتم على يد شغبة، ولكن كيف سيتم ذلك فهو لا يدري، غير أن شغبة تدري جيداً ماذا ستفعل، فلطالما حلمت بهذا اليوم لتنفذ فكرة انتقامية سوداء ناوشت خيالها طويلاً حتى عشعشت في ذهنها واستقرت، والآن كل من في الساحة ينتظر ويترقب خطوة شغبة التالية وتصرفها القادم، ولا أحد يستطيع التكهن. وفي ثبات عجيب وبقلب متحجر قامت شغبة بقطع يدي أسيرها من منتصف الساعدين في بشاعة ووحشية، وجعلتهما أداتين تضرب بهما على النقارة ضرباً عنيفاً والدماء تتطاير من هنا وتسيل من هناك، وشغبة تغني في حقد ومرارة، مخاطبة أسيرها مذكرة إياه بما فعله بقومها من قتل وسلب. وتقول له إن الأيام دول، وأنك الآن تعاني من أهوالها وتنكرها، فقد جاءت بك أسيراً وضحية تقول:
جِـيدْ يا بريرْ الضُقتَ النكُور والهْـولْ5
وكسْرَ الهمبَروكْ عيش السِّديره الخَورْ6
سَوقـةْ الحـدَّمْ العَقَدَنْ قِفِيهِنْ شُـولْ7
كَتِـلةَ البرمَكي مـع صَـباحَ البَـولْ8
واستمرت شغبة في نشيدها الجنائزي الرهيب والنقارة تصدر صوتاً مرتفعاً وحزيناً وهي تنقر عليها بيدي الشيخ برير المجزوزتين والملطختين بالدماء، ولا تني تذكره بما سلب وبمن قتل في ذلك الصباح الكئيب، فأسلمها إلى الألم وأحالها إلى كتلة من الأحزان، وهي الآن تتنفس نيراناً كتنين أسطوري هائج، ومن فمها تخرج كلمات نشيدها كطلقات نارية، والكل من حولها يردد كل كلمة تقولها فتأتي كالهدير. تقول:
جِيدْ يا بريرْ ضُـقتَ النُكور إِتْ حَـيْ
وكسرَ الهمبروكْ عَيشْ السِّـديره النَيْ
سَوقـةَ الحـدمْ العَقَـدَنْ قَفِيهِنْ لَـيْ
كَتِـلةَ البَرمَـكِي مَـعَ صَـبَاح الضَّيْ
ثم أخذت شغبة تواصل بمديتها الحادة تقطيع أوصال أسيرها وتلقي بلحم جسده إلى الكلاب، وهي تصيح وتهتف فيجاوبها الناس صراخاً وزمجرة. وبموت الشيخ برير أسدل ستار على فصل في مسرحية الصراع بين المرغماب والبطاحين، وانتهت هذه المعركة التي عرفت في تاريخ البطانة بمعركة “الدباغات” والدباغات حفائر مائية تقع شرق بلدة أبو دليق، غير أن المثير أن شغبة لم تخف إعجابها بثبات وصمود ضحيتها الفارس الشيخ برير الذي واجه انتقامها بشجاعة متناهية وصمود كبير، فمدحته قائلة:
ود العِز بِرَيرْ ضَـرَب النِّحـاسْ ما بخَافْ
وعِندو الدكَـري البياخُد تَلاَتَـه أخَفَـافْ
حَالِفْ بيْ الطَلاقْ ما يفوتْ بَنات عَـسَّافْ
إلاَّ الـرَّاسْ يِفَـارقَ الجِـتَّه واللكـتَّافْ
كما لم تخف أيضاً إعجابها بشجاعة أعدائها من البطاحين العركشاب، وما أبدوه من شراسة في القتال وقوة في التصدي، فكانوا محل مدحها عندما قالت:
دُبْ العرْكَشَابْ وْكتاً يَلوكـوا المُـرْ9
تَدَّبَـتْ للكُـتَالْ مِتْـلَ الكُبَاشْ الغُـرْ10
يَدعَكـوا على الصَّفْ الدَميهو تَخُـرْ
ويَصفَى لَونُنْ مِتلْ دَهبْ الجمارْ الحُرْ
ولم تكن معركة الدباغات هي آخر المعارك التي دارت بين شغبة والبطاحين فقد أثار انتقامها الرهيب حفيظة أحد المحاربين الأشداء من فرسان قبيلة البطاحين ويدعى “اللين” وهو ابن عم الشيخ برير، فعزم على الثأر من شغبة وقومها، وفي سبيل ذلك استنهض قبائل (جهينة) و(السدرانة) ليغزو بهم ديار المرغماب، ووعد هؤلاء الحلفاء أن يتنازل لهم في حالة النصر عن كافة الغنائم، على أن يكتفي هو بسبي كافة نساء المرغماب، ولما تناهى هذا العزم والتدبير إلى مسامع شغبة، أخذت في الاستعداد وتنظيم الصفوف وتشجيع فوارس القبيلة باشعارها الحماسية والنارية. وعندما تجمعت قبائل جهينة والسدرانة بقيادة الفارس “اللين” واتجهت إلى ميدان القتال في مكان يسمى “شموم” وفيه دارت رحى حربٍ حامية ا########س، كانت شغبة مستعدة لها تمام الاستعداد، ومن تدابيرها في شأن هذا الاستعداد، أن أمرت فرسانها بخلع أمشاط شعرهم ليغرسوها في مكانٍ معين حتى يعرف من الذي هرب من ساحة القتال، وأن يقوموا بربط أطفالهم حتى لا تسول لهم أنفسهم الفرار من ارض المعركة. ولحسن تنظيمها وتدبيرها وصلابة فرسانها، استطاعت شغبة أن تلحق بحلف اللين والسدرانة وجهينة هزيمة نكراء في معركة دانت فيها السيطرة تماماً للمرغماب، قتل فيها قائدهم اللين قتلة شنيعة، إذ سقط على الأرض مكشوف العورة على أثر طعنات عشرات الرماح التي انغرست في جسده، وأخذ محاربو الحلف يهربون زرافات ووحداناً، فلحق بهم فرسان المرغماب وقتلوا فيهم من لحقوا به، وقطعوا أذيال خيول من كان أسرع في الفرار. وكسا الفرح وجه شغبة وانشرح قلبها، وهو فرح وانشراح لم تعرفه منذ أن قتل ابنها (نائل) وزوجها (ود دقلش)، فأخذت تمدح فرسان قبيلتها وتذم أعداءها قائلة:
أَهـلي بُقَّـةْ الحَنضَّل دَوا الجَـرْبَـانْ
أَهلِي الفي قَفَاهُـن بِربُطـوا الطفْـلاَنْ
والله البِحـالِقُـنْ عَـليْ النِّســـوَانْ11
يَرْقُـدْ رَقْـدَةَ اللِّيـنْ كَـدِي عَـريَانْ
ثم أخـذت من بعد تسخر مـن قبائل جهينة والسدارنة، كما يتضح في نظمها الخماسي الذي تقول فيه:
إِتْلمَّـتْ جِهينَـه والسَّـدَارنَة الــزُرْقْ
وأرْجُوهُـنْ صَبَاحَـاتْ الكواهْلَه الفُرْقْ
عَدُوهُنْ شَمُـوْم مِتْـل النَّعَـامْ الطُـرُقُ12
فِسْـرَاعْ شَبَّعُـوا اللِّينْ كُرَاسْـةً بُـرْقْ13
خَلُّو العَرْكَشَابْ رَاقْدِينْ شَتَاتْ في الْحُرْقْ
وفي رباعية تقول:
إِتلمَّـتْ جِهيـنَه وطُـرْطُـرْ أُم هَـبُودْ14
بِحسبُوهو كِـتَالْنَا بالحَجَـرْ والعُــودْ
أَرْجُوهُـن صَبَاحَاتْ الكَـوَاهلَه قُـعُودْ 15
فِسْـرَاعْ شَبَّعُـوا اللِّينْ مِـنَ المَتْـرُودْ 16
ولم تنس شغبة أن تسجل في أشعارها واقعة الهروب المخزي الذي اتخذه فرسان جهينة وِجَاءً ومنجَاةً من الموت، وذلك في إشارة ذكية منها تطلب فيها من فرسان جهينة أن يقوموا بصناعة أذيال من الشعر المستعار ليصلوها بما تبقى من أذيال أحصنتهم، حتى لا يظهر الدليل على فرارهم وذلك عندما قالت:
اليـومْ يَــا جِهيـنَه حَـدَّكُنْ فُـتُوه
وسَعيتوْلكُنْ خُيول دَرْبَ النِّكُورْ عُستُوه
فَارسَ السبعَتَينْ جِيـد اللُّقَـا ضُقْتُوه 17
كوسُولْكُنْ سَبِيبْ ضَنَبْ الحُصَانْ أَكتُوه 18
وكانت شغبة قائدة مهابة تقسو على فرسانها لتجعلهم على أهبة الاستعداد لأية ملمة طارئة ولأية معركة محتملة. ولم يسلم من قسوتها حتى ابنها حسين الذي انشغل بدراسة القرآن الكريم والاهتمام بألواحه القرآنية، وجمع المال عن المعارك التي تدور رحاها بين القبيلة وأعدائها، فانتاشته شغبة بقذائف شعرية ليبدل سلوكه وينخرط بين المقاتلين، ويترك كل شيء عدا ذلك، كما يتضح لنا في قولها:
مَتَيـنْ يـا حِسينْ أَشُـوفْ لوحَكْ مَعَلَقْ
ويومــاً كَـاتِلُنْ ويومــاً مَفَلَّــقْ
حِسين مَـا رِكَـبَ الفي شَـايتُو غَـلَقْ
قـاعِــد ليْ الزَكـا ولقـطَ المَحَلـقْ 19
وفي قولها:
يا حِسينْ أَنـا مَاني أُمَكْ وإتْ مَاكْ وَلَدِي
بَطنَـك كَرَشَّـتْ غـيْ البَنَـاتْ نَـاسِي
ودِقْـنَكْ حَمَسَّتْ جِـلدَكْ خَـرِشْ مَا فِي
لاكْ مَضرُوبْ بيْ حَـدْ السِّيفْ نَكَمِـدْ فِي
ولاكْ مَضروبْ بيْ لسان الصَيد نَفَصِد فِي 20
وكان هذا الشعر كافياً لأن يرد حسين لمنظومة المقاتلين، والاستجابة لنداء أمه القوي، وقد عبر حسين عن هذا التغيير الذي حدث له شعراً عندما قال:
مَحَينَاكْ يـا لَـوحْ وكَسَرْنَاكْ يَـا دَوَايَـه
لِهيـَجْ الحُـمْ أَحسَـنْ مِـنْ القِـرَايَـه 21
وقَـلَبتَ الشَّــدْ عَـليْ اللَّفَضْ التَّنَايَـه 22
ومقَـالَبـةْ البُـكَـار كَبْـدَ السحَـايَـه 23
ومن ملامح القوة التي تميزت بها شغبة، تحديها العجيب للسلطنة الزرقاء التي كانت قائمة آنذاك بكل جبروتها، ويتضح لنا ذلك من خلال واقعة مثيرة، وذلك عندما طالب المك عجيب المانجلك أحد مكوك السلطنة الزرقاء على أثر خلاف حاد مع حسين ابن شغبة، أن تقوم قبيلة المرغماب بتسليم حسين له، وأن تدفع قبيلته الإتاوة مع تقديم فروض الولاء والطاعة. وكان آنذاك أن تحالفت شغبة مع قبيلة الكمالاب، وهم أبناء عمومة المرغماب، وكان حلفاً قوياً مهاباً بعث مزيداً من الثقة في نفس شغبة، فقامت بالرد على المك عجيب المانجلك عبر رسوله، رافضة مطالبه ساخرةً منها وهي تقول للرسول:
قُـولْ للمَـكْ عَجيبْ ما عِندَنا لَيك الآتْ 24
بَرا دَقْ ود بَقيـعْ والدُّكَّـرِي الكَـفَّاتْ 25
أَكِلنَـا العَـكَـه ونَفْطُـرْ عَليْ نَبَقَـاتْ 26
دَقَّـــتْ نُـقَــارَةْ البَـرَكَــاتْ
عَرضوا أَولاد كَمال جَوهَا الدُّبس قُتَّاتْ 27
غير أنه لم يحدث صدام ما بين شغبة والسلطنة الزرقاء، إذ قام ابنها (حسين) بتسليم نفسه بقرار فردي إلى المك (عجيب المانجلك) حقناً للدماء، وقام بذلك بشجاعة متناهية، إذ كان يعلم أن مصيره الموت، وهذه الشجاعة أثارت إعجاب المك عجيب، واعتبر أن موقف حسين موقف نبيل، فقرر أن يعفو عنه، وبذلك انقشعت الأزمة، إلا أن وقائع العداء اتصلت فيما بعد بين شغبة وأحد ملوك السلطنة الزرقاء الذي رأى أن شغبة تثير الكثير من الحروب مع القبائل، فآثر أن يعتقلها. وبالفعل تم اقتيادها مخفورة، حيث تم وضعها حبيسة قيد الإقامة الجبرية بسنار عاصمة السلطنة الزرقاء. ولما فشل المك في استمالتها قام بنفيها إلى بلدة دنقلا، حيث قضت فيها على الأرجح ما تبقى من حياتها. ولشغبة أشعار عديده أنشأتها عندما كانت في سنار وعندما كانت منفية في دنقلا. ويجدر بنا الآن أن نوضح أمراً مهماً يتعلق بالدوبيت القديم واشعار شغبة تعد مثالاً له، وهو ما يبدو في بعض شطرات تلك الأشعار من اختلالات وزنية، وهي ظاهرة يمكن أن نردها إلى آثار الرواية، غير أن الأرجح لدينا أن توقيع الإنشاد كان يغطي هذا الاضطراب الوزني الذي كان موجوداً في الدوبيت القديم، وإن بدأ بالخفوت عندما ظهر الشاعر الحاردلو وهو يحتقب الوزن المتقن والصرامة الشكلية مع اشعاره، غير أن الآثار القديمة مازالت تلقي ببعض ظلالها على أشعار اللاحقين من أهل الدوبيت، وإن بدأت الظاهرة بشكل عام تضمحل لتزوي إلى اندثار.
ونعود الآن إلى شغبة التي تركناها في منفاها ببلدة دنقلا، حيث رجحنا أنها قضت بقية حياتها في هذا المنفى، رغم أن بعض الرواة يقولون إنها عادت إلى موطنها ديار المرغماب، إلا أنه قول يعوزه الدليل ويفتقر إلى البينة، على غير زعمنا الذي تتكاثف عليه البينات الظرفية لترجحه دون سواه. وأول ما يبدو لنا من ذلك ما تواتر من أشعارها، وفيها أكدت وجودها بأرض الدناقلة ومفارقتها لديار الأهل والأحبة، وذابت شوقاً وتحناناً لأرضها المعطاءة ونسماتها المنعشة، تقول:
اللَيله هَـبُوبْ أَهـلي مَـلَتْ نَفَـسِي
ومِـنْ رَطنَي الضَّنَاقْلَه واكَتيرْ هَوَسِي
فَارَقْـتَ الحُـوارْ الفي الشَّبَكْ رَفَسِي
فَارَقْتَ الخَلْفَه المِسَارِي والجَمل فَرَسِي
وتقول والحنين يغالبها للأهل والعشيرة:
حِليلْ البِرْكَـبُو التَّيسْ أب صَريمَـه
وحِليلْ البِنزِلوا حَـدَبْ أُمْ قِضَيضِيمَه
وحِليلْ الجَـاهِلُنْ مـا بِـدور تَعلِيمَه
حِليلْ البِقطَعـوا الشَّكْ فـي العَزيمَه
وأَهلي المُرغُمَابْ بَدَوبي لَيهُنْ دِيمَـه
وثاني ما يبدو لنا من تلك البينات العقلية التي ترجح أن شغبة قد بقيت في منفاها حتى وفاتها، أن الباحثين والرواة لم يوردوا إلى ما يشير الى أنها قد حظيت بعفو من سلاطين السلطنة الزرقاء، وآخر بيناتنا التي تؤكد عدم عودتها إلى ديارها، أنها مجهولة القبر، وما كان لمثل هذه القائدة الأسطورية أن تعود إلى ديارها دون احتفاء كبير من قومها الذين أحبتهم وأخلصت لهم، ولكان لها قبرٌ معلومٌ في ديارها.
كانت تبدو على شغبة سمات رجولية وتفتقر إلى لطف النساء، وتلقى ألفاظها بخشونة، وتألف أحياناً أشعاراً في غاية الجرأة نأنف من إيرادها، إلا أن لهذا القمر وجهٌ آخر مُضئ، يتضح لنا في أشعار حنينها لأهلها، وأشعارها التي وصفت بها طبيعة البطانة، غير أن ذكريات المعارك والحروب ظلت وإلى آخر أيامها تجلجل في ذاكرتها وتوحي لها بالأشعار كقولها:
أَوَلْ فِــي زَمَـــانْ الحَــرْبْ
نَقْعُد فِي ضَراهُنْ ما بنَخَافْ السَّـلْبْ 28
أَولاد أُمَـاتْ قُنَاعاً مـا بِنَبِّحْ كَـلْبْ 29
بِدَّعْكُوا عَليْ الحَرْبَه التَّرِيـعْ القَلبْ 30
وكقولها:
وَكـتـاً تَجـيـنَـا اللَّحَـــرَابْ
بنكِيـل الحِميسى ونَنْفُـضْ البُتَّـابْ 31
بي زَرق الحَـسَادَه بِنْكَمِّـلْ الشَّيَابْ
ونرقُد في ضَرَى دَرَقْ الجَنَا التَيَّابْ
وأخيراً نقول بأننا لا ندري كيف ماتت شغبة، ولا نعرف لها قبراً، ولكننا ندري أنها قبيل غروب شمس حياتها بمنفاها ببلدة دنقلا، قد ركنت إلى وحدتها الموحشة، وإلى ذكرياتها الثرة، وإلى حنينها الذي لا يفتر ولا ينقضي إلى أهلها وقومها.
الـهـــوامـــش:
1. كُر : كلمة تقولها النساء عند الأمر الجلل ونوح هو النبي نوح وكأنما تستنجد به .
ميَّح من الركاب : فقد توازنه ليسقط من فوق صهوة حصانه .
2. البماسحو الكيل : تقصد بهم المتقاعسين والمترددين .
3. كبيرة الضيل : الضيل هو الذيل ، وهي تصف ناقتها المكتملة النمو الوافرة بالحليب .
4. جيد : كلمة تعني حمد الله . النكور : المصائب وتنكر الأيام .
5. الهمبروك : الزرع الذي لم يبلغ طور النضوج .
6. الحدم : ما ولد حديثا من الإبل . قفيهن : رقابهن .
7. صباح البول : الصباح الباكر وفيه عادةً ما يتبول الإنسان .
8. دب : يقال أيضاً تب بمعنى إخسأ .
9. تدبت : تثبت وتصمد .
10. البحالقن : الذي يطوف بجوارهن أو يحوم عندهن .
11. عدوهن شموم : أي طُرِدوا من موضع شموم .
12. برق : ما يخالط لونه البياض والسواد .
13. طرطر أم هبود : الرماد .
14. أرجوهن : قابلوهم .
15. المترود : الحراب .
16. فارس السبعتين : تعني به محمد ود أحمد العامرابي من فرسان المرغماب الأقوياء .
17. أكتوه : أربطوه .
18. المحلق : مفردة بيجاوية وتعني النقود .
19. نفصد : إعادة فتح الجرح أو الورم
20. الحم : النساء ولعلها من الأحم إشارة إلى الخضرة التي تعلو شفاه النساء .
21. الشد : السرج .
22. السحاية : المكان الذي ينبت فيه السحا وهو نبات تأكله الإبل .
23. الآت : المال .
24. ود بقيع : رجل يصنع أدوات الحرب كالسيوف . الدكرى : السيف .
25. العكه : ثمر الدوم .
26. الدبس : السود وتعني بهم قبيلة المرغماب .
27. ضراهن : حمايتهم .
28. المعنى العام للشطرة أن هؤلاء الفرسان الذين يحموننا هم أولاد المحجبات العفيفات اللاتي لا يحوم الغريب على بيوتهن لذا لن تسمع صوت الكلاب وهي تطارد متعدياً أو غريباً .
29. بدعكوا على الحربة : يتسابقون على المعركة .
31 . الحميسى : نوع من الذرة أحمر اللون . البتاب : قشر الذرة الذي ينفصل بعد أن يدق ويُذري.
اضف تعليقا